رواية احتيال و غرام للكاتبة رحمة سيد الفصل الخامس
كان يطل عليها بجسده دون أن يمسها، وجه يونس أمام وجه ليال مباشرةً، عيناه السوداء تحاصر بنيتاها تقدح عاطفة ذكورية لا يدري متى اشتلعت بين جنبات صدره وهبت لتنشب بظلمة عيناه..!
بينما ليال كان صوت تنفسها عالي، دقات قلبها في ازدياد مستمر حتى شعرت أن الهواء الذي تسحبه لصدرها لم يعد يجد مكان وسط ثوران تلك المشاعر الحادة داخلها..
أمسكت وجهه قبل أن يقترب منها لتهمس له بصوت خرج مبحوحًا:.
-يونس لأ، ابعد يا يونس، بلاش وأنت مش في وعيك
لم يكن يجيب بل كان محدقًا بها، يسمعها ولكنه كان مُلقى بين براثن عالم اللاوعي فلم يعد قادرًا على السيطرة على أي رد فعل...!
فهمست مرة اخرى بصوت اكثر إلحاحًا:
-ابعد عني يا يونس
ولكنه لم يعط الاستجابة المرجوة بل اقترب بوجهه من رقبتها، مغمضًا عيناه، مستسلمًا لتلك العاطفة التي أحكمت قبضتها الحارة على كل خلية به...
وما إن لمست شفتاه رقبتها البيضاء حتى ارتجفت متفاعلة مع تلك العواطف وازداد إنقباض أنفاسها الثائرة، لتحاول تلفظ تلك المشاعر لخارج شرنقة روحها، فقالت بحروف متقطعة مرتجية:
-بالله عليك أبعد، هتكرهني اكتر اول ما تفوق والله
لم يتزحزح من مكانه لمدة دقيقتان، ثم ابتعد فجأة ليتمدد على الفراش جوارها، يحدق باللاشيء...!
بينما ليال تزفر بعمق سامحة للهواء ليجتاح رئتاها بارتياح، لم تكن لتسمح له أن يكرهها أكثر، لن تستطع التأقلم مع حقده إن تزايد..!
رفعت جسدها بخفة تنظر نحوه لتجده أغمض عيناه واستسلم لنوم عميق، فاقتربت منه ببطء لتسند وجهها على صدره الصلب، تطالع ملامحه التي تشع رجولة وخشونة والتي أطاحت بقلبها لتأثره بلعنة ذلك العشق..!
ثم مدت يدها بتردد ولأول مرة تسنح لها الفرصة لتتحسس وجهه بأصابعها المرتجفة، يا الله كم تعشقه، تعشق كل شيء به، وكم يكرهها هو!.
خرج صوتها مرتعشًا ككليتها وهي تهمس متسائلة وتلك الحسرة تستبيح حروفها لتظهر بشكل بائس:
-أنت ليه مش بتحبني يا يونس؟
ثم هزت رأسها بسرعة وهي تكمل بتوسل وكأنه يسمعها:
-طب مش عايزاك تحبني على الأقل ماتكرهنيش
كبحت بصعوبة تلك الدموع التي لمعت بعيناها، وهي تردف متسائلة بنبرة مختنقة:
-هو انا وحشة يا يونس؟ أنت ليه بتكرهني اوي كده؟!
في اللحظة التالية جاءتها الاجابة متمثلة في هيئة ذكرى مريرة لذلك اليوم، ذكرى لم تغادر عقل كلاهما ولم يتوانى صدأها عن تمرير جوفهم...
حينما أمسكه والده من ذراعه يُعيده مكانه بقوة وهو يردد على مسامعه بحزم كمن يُصدر فرمان موته:
-اقف مكانك، أنت غلطت يا يونس ولازم تتحمل نتيجة غلطتك، البنيه دي ملهاش ذنب في اللي حصل، وخلاص فيروز ماهياش راجعالك تاني بعد اللي حصل، فأعمل حسابك انا هاخدك انت والبنيه دي وهتكتب كتابك عليها عندنا في البلد.
ثم عقد ما بين حاجباه ليردف بحدة:
-وبعدين أنت كل حاجة بتكدبك يا يونس، وأنت اصلًا مش فاكر إلا طشاش من اللي حصل، فـ ازاي عايزنا نكدب كل دول ونصدقك أنت؟
إتسعت عينـا يونس وهو يستمع ما يتفوه به والده، وسرعان ما كان يصيح مستنكرًا:
-لا يا حاج لا، أنا اكتب كتابي على الجرسونه الكدابة ال دي؟! ده انا ماستنضفش أشغلها خدامة عندي هخليها مراتي! مستحيل اللي بتقوله يا بابا أسف هخالف كلمتك المرة دي.
دب والده قاسم البنداري على الأرض بعصاه بعنف لتصدر صوت كان بمثابة بوق يعلن تأهب الحرب على اقدامها:
-مبقاش قرارك يا يونس، اللي حصل محدش غيرك هينفع يصلحه، وبعدين متنساش إني داخل على إنتخابات والموضوع ده ممكن يُضرني ويضر بسُمعتنا عمومًا، يابني ده احنا في ناس مستنية غلطة لينا!؟
كان يونس مطأطأ رأسه أرضًا، يشعر أن كل شيء سقط عليه كجبل عتيّ ما عاد قادر على ردعه...!
إلى أن رفع قاسم وجهه الملتوي بالتذمر والرفض، ليستطرد في شموخ:
-ارفع راسك يا يونس، اوعى تدي فرصة لحد إنه يوطي راسي او راسك، وبعدين احنا منعرفش الخير فين بس اكيد مش في خطيبتك الملونة المتكبرة دي!
سافرت عينـا يونس نحو ليال التي كانت تراقبهم عن بُعد بصمت مستمرة في البكاء لتثير شفقتهم، عيناه حملت قسمًا بالعذاب والأنتقام، نظرته كانت كطرف سيف أسود حاد لن يعود لغمده حتى يمزقها وسيعلم مَن الذي جعلها تفعل ما فعلت سواء بإرادتها او رغمًا عنها...!
فنطق لسانه بما لا يرضاه قلبه قاطعًا ذلك الصمت:
-ماشي يا حاج أنا موافق، بس هطلقها وقت ما دماغي تهفني وهتجوز عليها لو حبيت! من بعد ما اكتب كتابي عليها مش عايز حضرتك تحط أي قيود في حياتي تاني
هز قاسم رأسه بنفي حازم:
-عداك العيب وأزح يابن البنداري!
حينها أدركت ليال أن الليالي القادمة ستأخذ من ألمها وشقاءها قربان لذلك العشق...!
عادت ليال من براثن الذكريات ثم وضعت رأسها على صدره لتستطرد بألم رهيب نخر قلبها نخرًا حتى جف من كثرة نزيفه لتدفنه هي بصمتها المستمر:
-انا والله ما وحشة يا يونس، أنا عملت كده علشان بحبك ومش عارفه أنساك، كان عندي أمل إنك تحبني
أصبحت دمعاتها الحارقة تتسرب دون أن تشعر على وجنتاها، فراحت تهذي وكأنها تستجديه أن يرأف بها فتعطها حقها في العيش:.
-طب أعمل إيه عشان تحبني، قولي أعمل إيه عشان تحبني زيها، والله العظيم هي ما بتحبك قدي ولا حد في الدنيا دي هيحبك قدي.
وما أقساه ذلك الشعور، حينما توهب كل ما تملك من مشاعر لأحدهم فتُقابل بالمقت والرفض، فترتد تلك المشاعر داخلك لتصبح نصل حاد يُمزق روحك التي لم تكن تستجدي سوى وصال يُرضي شغف تلك المشاعر داخلها...!
اليوم التالي صباحًا...
في القصر...
خرج بدر من غرفته بهدوء ينوي التوجه لعمله كعادته كل يوم، ولكن أستوقفه مشهد تلك السيارة المركونة أمام القصر مباشرةً فتملك منه الفضول ليتوجه نحو فاطمة والدة أيسل التي وجدها جالسة على الأريكة تشرب قهوتها الصباحية، فتنحنح في البداية هاتفًا بهدوء:
-صباح الخير
فردت هي بابتسامة مُرحبة:
-صباح النور، تعالى أقعد يا بدر.
جلس بدر بالفعل جوارها ليسألها بخفوت محاولًا رسم ابتسامة مُجاملة لتزيين محياه:
-ازي حضرتك يا ست فاطمة؟
فأومأت هي برضا:
-الحمدلله بخير، انت عامل إيه يا بدر؟
-الحمدلله تمام
سألته فاطمة بعدها باهتمام وهي تعيره كافة انتباهها:
-في حاجة مضيقاك في القصر؟ او أيسل عملت حاجة تاني؟
فهز بدر رأسه نافيًا، ثم راح يغطي على سبب وجوده الحقيقي وهو يتمتم لها بجدية مسرعًا:.
-لا لا مفيش اي حاجة، انا بس قولت اصبح عليكي وانا رايح الشغل
-تسلم يا بدر متحرمش
ردت بها فاطمة بابتسامة حلوة حانية، فنهض بدر وهو ينظر يمينًا ويسارًا بصمت، لتقول فاطمة:
-مريم قالت رايحه تشتري حاجة من السوبر ماركت
فأومأ بدر برأسه:
-اه منا عارف، انا مش بدور على مريم
اومأت فاطمة برأسها ولم تعلق، منعت ابتسامتها الماكرة بصعوبة من التحليق على ثغرها المجعد وهي تدرك أنه يبحث عن أيسل وليست تلك المريم...!
كاد بدر يغادر بعدها ولكنه إلتفت ليسألها بعدها بفضول لم يستطع كبته:
-هي عربية مين دي يا ست فاطمة اللي قدام البوابة؟
فأجابت فاطمة بعينان حملتان مكر انثوي لمع بوضوح لم يكن مُفسرًا لبدر:
-ده واحد جه تبع البيوتي سنتر بيرسم لأيسل تاتو في الصالون!
لم تُخفى عنها عيناه التي إحتدت بغضب أسود حاول كتمه ولكن تلك الوحوش التي زمجرت داخله وأخذت تبعثر المشاعر المدفونة بين جنبات صدره قتلت محاولته للسيطرة والصمت، فسار دون أن ينطق بحرف نحو الصالون...
فتح بدر الباب فجأةً دون أن يطرقه ليجد أيسل تجلس على الأريكة وتعطي ظهرها لذلك المُشبه برجل الذي كان يجلس خلفها مباشرةً ويرسم لها ذلك التاتو على رقبتها من الخلف، ولم يكتفي بذلك بل كان يتلمس تلك الرسمة على رقبتها ببطء أذاب المتبقي من تحضر بدر لينصهر وسط ذلك الشعور بالغيرة مخلفًا خلفه بركان ثار بجنون قادر على حرق الأخضر واليابس...!
اقترب بسرعة قبل أن يعطهم فرصة للإندهاش من وجوده ليمسك ذلك الرجل من تلابيبه وهو يدفعه خارج الغرفة بعنف صارخًا بحدة مُخيفة:
-اطلع برا يالا
شهقت أيسل بفزع وهي تهمس تلقائيًا:
-بدر أنت بتعمل إيه سيبه
فيما إتسعت عينا ذلك الرجل بدهشة سرعان ما كانت غضب وهو يفلت ملابسه من قبضتا بدر، ويردد بغيظ:
-في إيه يا استاذ أنت؟ وسيب هدومي
فزمجر فيه بدر بجنون استوطتن حدقتاه و كان بينه وبين الواقع شعرة:.
-ولو مامشيتش دلوقتي حالاً مش هاسيبك أنت شخصيًا إلا لما اعملك عاهه مستديمة
نظر ذلك الرجل لأيسل بحنق لتتشدق هي بسرعة معتذرة:
-سوري بجد بالنيابة عنه يا عمرو حقيقي سوري، أتفضل أنت وشكرًا ليك تعبتك
فأومأ عمرو برأسه وهو يحدق ببدر بحقد مجيبًا:
-تعبك راحة يا أيسل
ثم تحرك يلملم اشياؤوه ويغادر تلك الغرفة في نفس اللحظات التي صاح بها بدر بشراسة مُحذرًا:
-اسمها مدام أيسل يا كلب!
رحل ذلك الرجل، ليصفع بدر الباب غالقًا اياه، فهدرت فيه أيسل والغيظ يناطح عيناها:
-إيه اللي أنت عملته ده؟ أنت ازاي تتعامل بالهمجية دي؟
فأخذ بدر يقترب منها ببطء وهو يزمجر فيها بعروق بارزة تكاد تنفجر غضبًا:
-انتي اللي ازاي يا محترمة تخلي راجل يشوف ولو جزء من جسمك ويحسس على رقبتك كمان يا بجاحة أهله!
تراجعت أيسل للخلف بتوتر وهيئته المجنونة تبعث فيها قلقًا واضطرابًا جعل احشاءها تتلوى بينما تردف بصوت حاولت جعله ثابتًا:
-ده كان بيرسملي بس، وآآ، مكنش بيحسس!
أصبح أمامها مباشرةً ليظهر ضؤل جسمها أمام ضخامة جسده، ليمسك فكها بقوة صارخًا فيها بحدة أبرزت تلك المشاعر التملكية المتقدة:
-إنتي مراتي، يعني مفيش مخلوق مكتوب في البطاقة ذكر يشوف سنتي منك، فاهمة ولا أفهمهالك بطريقتي؟!
دفعت يده عن فكها بقوة ثم رفعت عيناها البُنية التي شابهت لون القهوة، لتردف بصوت عالي مغتاظ:
-أنت بتزعق كده ليه؟ هو انا عملت إيه لكل ده!
ليرفع بدر حاجبه الأيسر متهكمًا:
-لا ابدا معملتيش انا بس دخلت لاقيتكم بتقرأوا اذكار الصباح مع بعض!
ظلت أيسل تطالعه بنظرات حانقة، بينما هو يقترب منها اكثر حتى لم يعد يفصلهما شيء، ليقترب من وجهها نافثًا أنفاسه اللاهبة التي أضحت دخانًا لذلك اللهب الذي أشتعل بقسوة في كل خلية به، ليستطرد بعدها بخفوت حاد امام وجهها مباشرةً:
-انتي بتحبي كده صح
حدقت به بذعر وهي تسأله بنصف عين:
-كده إيه!
لتزداد ظلمة عيناه التي شابهت مغارة واسعة الجوف معبئة بالغضب، ثم قال بقسوة متعمدة:.
-بتلبسي ضيق عشان بتحبي نظرات الرجالة ليكي وبتلبسي حاجات مكشوفة وممكن اي راجل يلمس جسمك عادي، بتفرحي بكده صح؟
هزت أيسل رأسها بسرعة مستنكرة بشدة:
-لا طبعًا أنت مجنون!
ولكنه لم يعر جملتها اهتمام وكأنه لم يسمعها، بل رفع يداه يحيط جسدها من الجانبين ثم بدأ يتلمس جسدها بعشوائية وهو يتابـع بخشونة مهتاجة بتلك العواطف الحادة، بينما هي تجاهد لإبعاده عنها بقوة:.
-طالما انتي اي راجل ممكن يلمس جسمك طب اهوه يا ايسل، اشمعنا انا مش طايقه لمستي؟
فصرخت فيه أيسل بجنون وهي تدفعه بكل ما ملكت من قوة:
-أبعد عني وبطل الجنان والهمجية دي!
وقف بدر مكانه يلتقط أنفاسه اللاهثة محدقًا بها بصمت لم يطول حينما نطق بصوت أجش يسألها:
-انتي مسلمة ولا لا؟
إتسعت عيناها وهي تحملق به كأنه مجنون ثم ردت باندفاع:
-طبعًا مسلمة!
عاد بدر يسألها بهدوء حاد:
-إيه الدليل؟
-إيه الدليل على إيه!
صاحت بها أيسل باستنكار، ليتابع بدر بنفس النبرة:
-إيه الدليل على إنك مسلمة؟ يعني إيه اللي يفرق بينك وبين أي واحدة مش مسلمة؟
هذه المرة لم تجد أيسل اجابة بل اكتفت بذلك الصمت المخزي، ليشملها بدر بنظرة مزدردة من أعلاها لأسفلها وهو يردف:
-حجاب مش محجبة وقولت ده مينفعش بالأجبار، صلاة وطبعًا مش بتصلي، لبس محتشم مبتلبسيش، واللي زاد الطين بلة إن أي راجل ممكن يشوف اي حتة من جسمك ويلمسها!
عاد خطوتان للخلف ثم استطرد بنبرة قاسية تعمد جعلها سياط يجلد كرامتها:
-لو مش عارفة تكوني مسلمة على الأقل على الاقل حاولي تكوني إنسانة محترمة!
ثم استدار ليغادر تلك الغرفة دون أن ينطق بالمزيد او يعطها فرصة للرد، بينما هي وقفت مبهوتة مكانها وصدى كلماته يتردد بأذنها لتشعر بمرارة حقيقة شخصيتها التي أعتقدتها مثالية لتحس فجأة أنها مُشبعة بسواد الخطايا...!
بينما في تلك القـرية...
تحديدًا في غرفة يونس وليال...
فتحت ليال عيناها اولاً على ضوء الشمس الذي اخترق تلك الغرفة ليُنيرها، لتنظر ليونس الذي مازال يغط في نومٍ عميق..
تنهدت وهي تنظر له بشبح ابتسامة، ثم عدلت من وضعية جسدها لتنهض قبل أن يستفيق هو ويراها بين أحضانه وحينها لن يتردد في جلدها بسوط كلماته المسمومة!..
توجهت نحو المرحاض لتغتسل ثم تتوضأ كعادتها، ثم أدت فريضتها لتنزل بإسدال الصلاة للمطبخ في الأسفل...
نظرت لورد التي ابتسمت لها باتساع ما إن رأتها وصاحت بود:
-ازيك يا ليال
فردت ليال بهدوء:
-انا كويسة الحمدلله، انتي عامله إيه؟
-الحمدلله، اخيرًا قررتي تنزلي تقعدي معانا بدل ما انتي حابسه نفسك معظم الوقت في اوضتك
فابتسمت ليال بهدوء وهي تخبرها:
-معلش يا ورد، انا نازله اخد قهوة ليونس.
فعقدت ورد ما بين حاجبيها وهي تُحايلها:
-طب طلعيها وانزلي اقعدي معايا شوية انا حتى ماشية كمان شوية وهيبقى صعب اجي بعد كده كتير
اومأت ليال برأسها موافقة:
-حاضر والله هحاول صدقيني ولو مقدرتش أنزل اعذريني بس انا حاسه اني مش متظبطة انهارده
اومأت ورد برأسها ثم احتضنها تربت على ظهرها بحنو متمتمة:
-ربنا يريح قلبك يارب يا حبيبتي.
بعد قليل...
دلفت ليال الغرفة ممسكة بكوب القهوة بين يداها، لتجد يونس جالس على الفراش ممسكًا برأسه بين يداه والألم يستوطن قسمات وجهه، فاقتربت منه ببطء متنهدة قبل أن تهتف برقة:
-صباح الخير يا يونس
وكما توقعت لم يجيب يونس ولم يعرها اهتمام اصلًا وكأنها شفافة، لتتقدم منه ثم مدت يدها له بالقهوة وهي تقول:
-دي قهوة عملتهالك عشان تفوق، ولو حاسس إنك لسه مش مركز ممكن ماتنزلش تفطر معاهم وأقولهم إنك تعبان.
إنتشل منها يونس كوب القهوة وهو يتابـع بجفاف:
-متتدخليش في اي حاجة تخصني فاهمة!؟
لم ترد ليال وإنما اكتفت بتنهيدة عميقة وهي تراقبه يشرب تلك القهوة، وما إن أنهاها نهض لتمسكه هي بتلقائية عله يترنح كما أمس، ولكنه نفض يداها عنه بعنف وهو يزمجر فيها بقسوة أنبأتها أن تلك الشياطين عادت لمكمنها داخله:
-قولتلك قبل كده ماتلمسنيش هو انتي مابتفهميش عربي!
فانفعلت ليال للمرة الاولى لتهدر فيه بعصبية نالت منها ومن البرود الذي كانت تتمسك به حيال معاملتها ليونس:
-لا بفهم عربي، بس اللي أنت مش عايز تفهمه إني مش عبده عندك تقرب مني بمزاجك وتعاملني زي العبيد بمزاجك.
بلحظة كان يونس يمسكها من ذراعيها بقوة ليدفعها للخلف على الفراش بعنف لتسقط على الفراش بينما هو يطل عليها بجسده العريض ممسكًا بذراعيها، أنفاسه تصفع صفحة وجهها ليشاركها النفس، ثم صاح فيها بحدة غليظة وهو يحدق بعمق عيناها المتجمهرة بالغضب والغيظ:
-هو ده اللي عندي، طالما مش عايزه تغوري من حياتي وهتفضلي مراتي يبقى انا حر، أقرب منك أبعد اعمل اللي اعمله!
ظلت ليال تتنفس بصوت عالي وهي تحدق به دون أن ترد، بينما هو اشتدت قبضته قسوة حينما تذكر ليلة أمس ليتابـع بخشونة حملت لونًا واضحًا من الندم:
-أنا كنت شارب ومش واعي اصلاً امبارح
فردت ليال بتلقائية مستفزة كعادتها:
-ده ياريتك تبقى شارب دايمًا عشان تبقى هادي شوية وتبطل همجية
فانتفضت فزعًا حينما ضرب يونس على الفراش عدة مرات وهو يردد بصراخ اشبه بزئير الأسد المجروح:.
-لأول مرة في حياتي اشرب القرف ده بسببك، كل البلاوي دخلت حياتي بسببك لما انتي دخلتي حياتي
ثم ابتعد عنها ليمسك بذلك الكوب ليضغط عليه بقبضته بقوة ثم رماه ارضًا بانفعال حاد ليتشهم بالكامل، وراح يتشدق بجنون:
-ملعون ابو المكان الاسود اللي جمعني بيكي يا شيخه!
ثم اتكأ ليجلب هاتفه الذي كان ساقط ارضًا وكانت قطعة زجاج عليه فأمسك قطعة الزجاج بعنف ليرميها فجرحت يده ليتأوه بتلقائية بألم طفيف تجاهله وهو يضع هاتفه في جيب بنطاله، بينما ليال نهضت بسرعة لتمسك يده وهي تسأله بقلق:
-إيدك اتجرحت؟
دفعها للخلف بعيدًا عنه وهو ينتشل يده من بين يداها مرددًا بثوران غاضب:
-قولتلك ماتلمسنيش ابدا.
دون أن تشعر وبحركة مباغتة داست ليال على قطعة زجاج لتنغرز بقدمها فصرخت بألم وهي تمسك قدمها ليغادر يونس دون أن ينطق بحرف اخر متجاهلًا اياها تمامًا...
فجلست هي على الفراش تحاول إخراج تلك الزجاجة من قدمها وهي تهمس بصوت اختنق بالبكاء:
-يارب انا تعبت، يارب ازرع حبي في قلبه يارب!
بعد يوم آخر...
في القصر...
دلف حارس القصر ليتقدم نحو فاطمة متمتمًا بصوت جاد حذر:
-ست فاطمة في ست وراجل برا بيقولوا عايزين حضرتك
وقفت فاطمة تعدل من حجابها لتخفي خصلاتها البيضاء التي تبرز كبر سنها، قبل أن تقول في هدوء ووقار:
-دخلهم يا حسن بس ماتسيبهمش يدخلوا لوحدهم ادخل معاهم انت واي حد تاني من الشباب وخلي نسمه تنادي أيسل وبدر
-تحت امرك يا ست فاطمة.
قالها وقد اومأ مؤكدًا لها برأسه قبل أن ينصرف ملبيًا اوامرها، وبالفعل بعد دقائق معدودة دلف كلاً من طه و زوبه متفحصان القصر بأعين جائعة كالعادة لا يملؤوها سوى حفنة من التراب الأسود..!
في نفس اللحظات التي أتى بها كلًا من بدر وأيسل، فوقفت أيسل تطالعهم بنظرات مزدردة وكأنها تشمئز من كونهم والديها، كادت زوبه تقترب منها بحنان وحزن مصطنع وهي تتمتم:
-أيسل حبيبتي
فعادت أيسل خطوتان للخلف تهز رأسها نافية بحدة كارهه:
-ماتقربيش مني
وقفت زوبه مكانها بإحباط لتمثيلها المكشوف للجميع، فنطق طه بصوت أجش موجهًا حديثه لفاطمة:
-قولتي لأيسل إن اهلها جايين ياخدوها ولا لأ يا حجه؟
فردت فاطمة بحدة:.
-أيسل مش عايزه أهل غير اللي اتربت معاهم، مش اللي بيعتبروها غلطة وما صدقوا تاهت منهم ورفضوا يقابلوني حتى لما لقيتها وهي عيله ٤ سنين!
فأشار طه بيداه بتهديد مبطن:
-يبقى البوليس هو اللي يحكم بينا يا خطافة العيال!
حينها تدخل بدر ليجذب أيسل من خصرها بقوة ليلصقها به وقد أحس بتلك الرجفة التي هاجمت أيسل ما إن أحاطها بذراعاه يضمها له بقوة فيُلبي طلب جسده الذي احترق بالشوق ليفعل ذلك بعد أن كانت تقاطعه تماما منذ اخر مرة تشاجرا بها ذلك اليوم...!
ثم هتف بخشونة وصلابة:
-أيسل مراتي ومش هتروح في حتة، ومحدش يقدر ياخدها غصب عني!
فاندفع طه بغضب يصيح:
-كداب، هي مش متجوزه، انتوا بتلعبوا بقا عشان تخلوا البت هنا.
فتمتم بدر ببرود ساخرًا:
-يبقى البوليس هو اللي يقرر يا حج!
ولكن دون مقدمات وجدوا أيسل تهتف بما أصابهم بصدمة جمدتهم مكانهم جميعًا بما فيهم بدر الذي تجمد مكانه يحدق بها بعينان محتقنتان:
-انا هروح معاهم!
و...