رواية أوتار الفؤاد أوس الجزء الثاني تأليف منال سالم فصل ختامي
( الجزء الخامس من ذئاب لا تعرف الحب )
نكس رأسه في حزنٍ مصطنع وعبوس مكشوفٍ بعد أن ألبسه والده الزي الخاص بالسباحة ليبدو مستعدًا لتمرينه اليومي في النادي، حاول إقناعه بالتسلل إلى الطاولة الموضوع بها الميداليات المختلفة ليأخذ واحدة لنفسه، وذلك لرفض مدربه إعطائه له قبل أن يشارك فعليًا في المسابقات المقامة بالنادي، وضع "أوس" يده أسفل ذقن صغيره ليرفع وجهه إليه، نظر في عينيه بجديةٍ قبل أن يقول له بصرامة الأب:
-احنا قولنا إيه يا "ريان"؟
ركل الأرضية بخفه البلاستيكي قائلاً له في تذمرٍ طفولي:
-I want one! (أنا عاوز واحدة)
حاول أن يقنعه بالعدول عن تلك الفكرة الخاطئة موضحًا له بعقلانية:
-ما هو لما تكبر وتكسب هتاخد ميدالية منهم، ماينفعش قبل كده، ولو خدتها بدون إذن الكابتن هتبقى سرقة، وده غلط، والكل هيزعل منك وأولهم بابي ومامي
عبس وجه أكثر وهو يرد ببراءةٍ:
-بس أنا زهقت، الكابتن مش بيرضى يخليني ألعب، قوله يا بابي إني I can swim.
قال له مبتسمًا وهو يداعب خصلات شعره:
-عشان إنت لسه صغير، وبقالك فترة بسيطة في التمرين
نفخ "ريان" -ذي الأربع سنوات- في عدم اقتناعٍ وكتف ساعديه بضيقٍ كبير، حثه "أوس" على التحرك قائلاً له بخشونة طفيفة:
-بلاش شغل العيال ده، ويالا عشان متتأخرش.
ثم أشار بعينيه إلى أحد أفراد حراسته ليلازمه وهو يأمره
-مع الباشا الصغير
-تمام معاليك.
قالها الفرد الأمني بانصياعٍ قبل أن ينفذ أمره ويسير ممسكًا بيد الصغير إلى المنطقة الخاصة بتدريب الأطفال على مهارات السباحة. تحرك "أوس" مبتعدًا عن المكان ليتجه نحو الكافيه الخاص بالنادي، أجاب على اتصال زوجته ليخبرها بنتيجة حديثه مع ابنه موضحًا لها:
-أيوه يا حبيبتي، أنا معاه في النادي وأقنعته.. بس يا ريت يلتزم!
صمت لثوانٍ ليصغي لما تمليه عليه من رأيه الهام في اقتراحات تخص أغلفة روايتها الحديثة التي عكفت على كتابتها مؤخرًا، تنهد معلقًا باهتمامٍ:
-حاضر هاشوف الأغلفة وأقولك رأيي فيهم، بس مقولتليش البطل شبه مين؟
أنصت باستمتاع لردها الذي يصيبه بالغرور، ثم حذرها مداعبًا:
-برضوه أنا؟! بس مترجعيش تزعلي لما المعجبات بتوعك يحبوني ويتخانقوا عليا!
كركر بعدها ضاحكًا في استمتاع سعيد لنجاحه في إغاظتها، أنهى المكالمة معها باحثًا بنظراته عن ضيفه الذي أصر على الالتقاء به في اجتماعٍ غير رسمي بالنادي كنوعٍ من التعارف الودي قبل أن يشرعا في العمل سويًا، تنحى أفراد الحراسة بكلاً منهما للجانب ليمرق "أوس" وسطهم نحو طاولة ذلك الرجل الذي أطفأ سيجاره الكوبي المشتعل فور أن رأه مقبلاً عليه، أغلق الأخير زرار سترته مرحبًا به وهو يمد يده ليصافحه:
-"أوس" باشا، أنا عارف إنك مش بتحب حد يشرب سجاير، وأنا باحترم رغبتك!
أبدى أوس إعجابه ببادرته المهتمة بتطبيق قوانينه الصارمة دون انتظاره، تأمله بنظرات متفحصة دارسة له، كان قبل موافقته على مقابلته قد جمع ما يكفيه من معلومات عنه، لم يجد ما يشوبه، فهو حاليًا صاحب شركة شقت طريقها منذ زمن في سوق العمل قبل أن تتعثر وتمر بأزمة طاحنة على يد مالكها الأسبق ليعود بعدها ذلك الشاب من الخارج ويتولى إدارتها ويعيد تثبيت ركائزها ببراعة في وقت قصير فاستعادت مكانتها بين الشركات القوية، أفاق "أوس" من شروده المتطلع فيه على اعتذاره اللبق:
-اعذرني معاليك إن كنت هاخد من وقتك دقايق، بس قولت دي فرصة نتعرف فيها على بعض، ومش هاعطلك كتير!
رد عليه محذرًا بلهجة قوية:
-مع إني مابحبش أخلط وقت الشغل مع العيلة!
أبدى اتفاقه مع قاعدته الجادة قائلاً:
-أكيد، بس لكل قاعدة استثناء، ولا إيه؟
أكد له "أوس" مشيرًا بنظراته الصارمة:
-بس مش لأي حد!
وافقه الرأي معقبًا باقتضابٍ وهدوء:
-مظبوط يا باشا
سأله "أوس" مباشرة ودون أي مماطلة:
-قولتلي عاوزني أشاركك ليه؟
أجابه بصراحةٍ وبلغة الواثق من نفسه بدرجة يحسده الآخرين عليها:
-أنا حابب أعمل توسعات لشركتي، ومافيش أنسب من واحد معروف زيك بقوته في السوق وشدته مع العملاء إنه يكون شريكي في التوسعات دي، وأنا متأكد إننا في أقل وقت هنحقق احنا الاتنين مكاسب خيالية، وبطرق كلها مشروعة، وعندي الضمانات الكاملة لده!
لم ينكر "أوس" أن طريقته في التعامل مع الأزمات وإدارتها قد أعجبته، وخاصة أنه رأى بنفسه النتائج المبهرة على أرض الواقع، لذا لم يكن ذلك الرجل بحاجة للتملق أو المجاملات لنيل استحسانه أو إبهاره بشكل مراوغ، هز رأسه معلقًا عليه في اهتمامٍ:
-تمام، أنا هاخلي محامين المجموعة يدرسوا العقود ويقولوا رأيهم القانوني قبل ما أقول كلمتي الأخيرة
قال له ببسمة ثقة:
-حقك، خد كل الضمانات اللي تريحك، وأنا جاهز!
اكتفى "أوس" مما سمعه منه، فأصالة الرجال الأشداء تظهر من تعاملهم حتى مع صغائر الأمور، رفع "أوس" يده كتعبير عن مصافحته وموافقته الضمنية قبل أن يقول بصوته الأجش القوي:
-اتفقنا .. فرصة سعيدة يا ...
على الفور صافحه مُضيفه وابتسامة زهوٍ تعلو شفتيه ليرد عليه معرفًا بنفسه بنفس الثقة التي تليق أيضًا بأمثاله من الأقوياء:
-"زيدان" ... "زيدان الباشا"!
ملحوظة: لمن لا يعرف أو لا يتذكر، "زيدان الباشا" هو أحد شخصيات الرواية القديمة والتي سبق نشرها "فريسة غلبت الصياد" والذي يمتاز بامتلاكه لنفس سمات شخصية "أوس الجندي" القوية، طباعه القاسية، وأساليبه الصارمة.. هو نسخة مقاربة له إن لم تكن مطابقة.
تمت