رواية أوتار الفؤاد أوس الجزء الثاني تأليف منال سالم الفصل السادس
( الجزء الخامس من ذئاب لا تعرف الحب )
مال عليه الجالس إلى ميمنته ليشعل سيجارته الزهيدة المتدلية من فمه بعود الثقاب الذي بحوزته، أطفأه بنفخة واحدة ثم ألقاه أسفل قدمه المتسخة، تفرس في وجهه بدقة عله يفهم ما الذي يدور في رأسه، وحينما فاض به الكيل من صمته المريب سأله بصوته المبحوح:
-يعني ماسبتش المعلوم زي ما قالتلك؟
أجابه "فارس" بعبوس شديد بعد أن نفث دخان سيجارته:
-لأ.
تقوس فم زميله ليرد متهكمًا وفي نفس الوقت قاصدًا استفزازه:
-شكلها كانت بتلعب بيك يا معلم، وفي الآخر هتطلع من الليلة دي بلوشي!
التفت "فارس" نحوه ليرمقه بنظرة مغلولة قبل أن يعلق بغيظٍ:
-ومين قالك إني مستني فلوس الولية دي؟
توحشت نظراته أكثر حينما تابع:
-أنا مش هيبرد ناري غير لما أشوفه عاجز زيي، مسيره يقع ويجي هنا.
رد عليه زميله مستخفًا من رغبته التي حتمًا لن تتحقق:
-هما اللي زي دول حد يقدر يجي جمبهم، بلاش أحلامك دي اللي هتوديك في داهية
لكزه "فارس" بكوعه في جانبه هاتفًا فيه بحدةٍ:
-ملكش فيه، سيبني ياخي أتفك بكلمتين، حتى دي مستكترينها عليا؟!
ثم مد ساقه للأمام بعد أن شعر بذلك التشنج المؤلم يعتريها، تنحنح زميله مبررًا جديته:
-أنا بس بأوعيك.
في تلك الأثناء، كان "منسي" يسير منفردًا يُلقي نظرات عابرة على أوجه المساجين المليئة بعلاماتِ الإجرام، لم ينتبه خلال مشيه بالساق الممدودة مما جعله يتعثر بها، كاد ينكفئ على وجهه لكنه حافظ على توازنه في اللحظة الأخيرة، أصدر "فارس" أنينًا موجعًا من الخبطة المفاجئة، اعتذر منه "منسي" قائلاً بصوته الرخيم:
-لا مؤاخذة.
سحب "فارس" ساقه المتألمة بصعوبة ظهرت على تعابيره المشدودة ليثنيها بتأنٍ شديد، احتدت نظراته نحوه معنفًا إياه بخشونةٍ:
-ما تفتح يا عم، وتبص إنت بتدوس فين!
رد عليه "منسي" بتأفف:
-مقولتلك ماخدتش بالي، خلاص يعني هتعملها جناية!
هاجت دماء "فارس" الثائرة مسبقًا في عروقه من رده المستفز، كور قبضته ضاغطًا على أعصابه وهو يهدر به منفعلاً:
-شكلك عايز تتربى.
استشاط "منسي" على الأخير من تطاول من يقابله عليه من معتادي الإجرام واستهزائهم بقدراته على الدفاع عن نفسه، انحنى عليه بغتةً ليمسك به من تلابيبه، جذبه بكل ما أوتي من قوة مشحونة ليصبح وجهه في مواجهته، نظر مباشرة إليه بعينين محتقنتين، ثم كز على أسنانه قائلاً بغلٍ:
-كلمة زيادة وهامسحك من على وش الأرض
نظر له "فارس" باستخفافٍ وهو يرد عليه:
-والمفروض أنا أخاف؟
هدر به بتشنجٍ وقد قويت قبضته عليه:
-ما أنا كده كده مبلط هنا، إنت فاكرني عيل هفأ؟ إيه يعني كام سنة زيادة، ده أنا "منسي"، أجدعها شنب يتهز لما يسمع اسمي
توهم في نفسه أنه حينما يفعل ذلك سيرتعد "فارس" ويتراجع عن الإساءة إليه، لكنه كان مثله، يعاني من الاضطهاد والإساءة من قبل من هم أشد منه قوة وطغيان، قبض على عنقه وحاول خنقه غارزًا بشراسةٍ أظافره في جلده ليؤلمه أكثر وهو يرد متحديًا:
-ده على أساس إني هاسكتلك، ده أنا أشقك نصين وأدفنك مطرح ما إنت واقف، اتشاهد على روحك.
تدخل زميل "فارس" بجسده محاولاً الفصل بينهما قبل أن يتحول الأمر إلى شجارٍ يودي بهما إلى الحبس الانفرادي، أبعدهما قليلاً دون أن تتحرر قبضاتهم الممسكة ببعضهما قائلاً:
-خلاص يا رجالة، حصل خير
نظر "منسي" إلى "فارس" بحنق وغيظ، وبادله الآخر نفس النظرات الكارهة، تابع الزميل محذرًا:
-لو البيه المأمور شافنا ولا حد من العساكر هنتكدر، واحنا مش ناقصين قرف!
ظلت أنظارهما مثبتة على وجهيهما، كلاهما ينتوي شرًا للآخر، وقبل أن يشرع ثلاثتهم في الجدال مجددًا التفتوا جميعًا للجهة اليسرى حينما هلل أحدهم ساخرًا بصوت اخترق الآذان:
-النسوان اتلموا على بعض.
كانت إهانة صريحة وتشبيهًا مُذلاً بكافة المقاييس، احتقنت عينا "فارس" واحمر وجهه بشدة، فصاحب الصوت لم يكن بالغريب عليه، إنه "شادوفة" السجين الأكثر شراسة وعدائية بين المحبوسين جميعًا، لم يفلت أحدهم من مضايقاته المستمرة، أما بالنسبة لوضعه معه فقد كان دائم التنمر عليه مستغلاً عجزه ليزيد من إحساسه بالانتقاص بين الذكور حتى صار مسخًا بينهم، اضطربت أنفاسه وارتخت أصابعه عن عنق "منسي" ليتراجع للخلف منكسًا رأسه في خزيٍ ومفسحًا له المجال ليتحرك بحرية مع أتباعه من عتاة الإجرام، تأمل "شادوفة" الملامح المزعجة للسجين الجديد، لم يره مسبقًا، وبالتالي كان حتمًا عليه أن يعرفه بنفسه على طريقته الخاصة ليلزم حدودته ويخضع لقوانينه الصارمة التي ليس لها علاقة بقوانين السجن، اقترب أكثر منه حتى بات واقفًا وجهًا لوجهٍ له، رمقه بنظرة مطولة دارسة لتقاسيمه دون أن يتفوه بكلمةٍ، في حين بادله "منسي" نظرات مزدرية مقللة منه، وفجأة صرخ بتأويهة متألمة حينما أحس بالضربة العنيفة على مؤخرة عنقه، التفت بعينين مشتعلتين لمن تجرأ على ضربه ليجده يقول له بنبرة جافة تعكس التجبر والقوة:
-لما المعلم "شادوفة" يقف قصادك تخشع ياض.
وقبل أن يحرك شفتيه لينطق محتجًا على تطاوله البدني كانت قدم ذلك السجين الغليظ تركل "منسي" بعنفٍ في ركبته لتجبره على الركوع قسرًا، تألم الأخير مرة أخرى ورفع وجهه لينظر نحوه بغضبٍ مكتوم، حك "شادوفة" ذقنه الخشنة بأصابعه المشققة متسائلاً بسخرية:
-مين الحلوة؟ لتكون الوارد الجديد يا رجالة.
كركر أتباعه ضاحكين بطريقة تهكمية جعلته يغلي غضبًا بداخله، ناهيك عن استثارة دمائه لمجرد نعته بكلماتٍ أنثوية، فهي إهانة لم يكن ليقبلها بأي حال، رد "منسي" معترضًا على الفور:
-لأ عندك، أنا مش واحد كاورك عشان تعاملني كده
توقف الجميع عن الضحك وازدادت العدائية وضوحًا على ملامحهم القاسية، بينما تقوس فم "شادوفة" عن تكشيرة جانبية متسائلاً بنبرة لا تبشر بخيرٍ:
-شكله مش عارف أنا مين؟
ثم تجمدت نظراته عليه مستأنفًا بصوت عميق لكنه مخيف:
-الظاهر فهمه على أده!
هجم عليه أحد أتباع "شادوفة" ليطبق على عنقه بذراعه القوي وكأنه يعاقبه على تجرأه غير المسموح به على سيده، ضغط بكل قسوة على عروقه ليمنعه من التنفس، تحشرجت أنفاسه وتسربت الزرقة إلى ملامحه كدليل ظاهري على اختناقه، كما قام آخر بلكمه بعنفٍ في أسفل معدته ليضاعف من إحساسه بالألم، كان "منسي" يكافح للبقاء على قيد الحياة، ولم تُقدم له المساعدة رغم حدوث المواجهة وسط النزلاء، بدا وكأنه معزولاً عمن حوله، بين يدي من لا يرحم، انحنى "شادوفة" نحوه واضعًا يده على رأسه ليشده من خصلات شعره فارتفعت عيناه إليه، نظر له بحدقتين تعكس شرًا مستطرًا قبل أن يتمتم متوعدًا إياه من بين أسنانه بأنفاسٍ ذات رائحة كريهة:
-هتتنفخ هنا يا حيلتها!
ثم أشار بعينيه إلى رجاله ليلقنوه درسًا قاسيًا جعل عظامه تئن من شدة الضربات الموجعة في أنحاء جسده، هتف "شادوفة" آمرًا وقد رفع كفه للأعلى:
-كفاية عليه كده
توقف أتباعه عن الاعتداء عليه ليتركوه في حالة يرثى لها والدماء النازفة تسيل من فكه ومن أنفه ومن رأسه، دنا "شادوفة" من جسده المسجى على الأرضية الخشنة ليضع حذائه على عنقه قاصدًا دعسه، تمرغ وجه "منسي" في التراب المتسخ بدمائه وجرحت بشرته بقسوة، رجاه متوسلاً كي يكف عن إيذائه:
-حقك عليا يا ريس، ارحمني، أنا غلطت.
زاد من ضغطه على عنقه حتى كاد أن يهشمه ثم رد عليه متباهيًا:
-دي بس قرصة ودن عشان تعرفك مين ريس المكان هنا
ثم ارتفعت نبرته أكثر ليصيح في المتواجدين:
-يا رجالة، الليلة عندنا حفلة على .. "شوقية"، رحبوا بيه على طريقتنا.
كان يقصده بذلك اللقب النسائي وتعمد مناداته به أمام النزلاء ليهينه أكثر، كما كان الأمر أيضًا دعوة متوارية لهم للقيام بأفعالٍ مشينة لا يمكن تخيلها من أجل كسره وإذلاله، تمنى "منسي" الموت على أن يكون هكذا، بكى وانتحب عاليًا فزاد ذلك من استهزاء الرجال به، تجمد "فارس" في مكانه متابعًا ما يدور في صمت مشحون مستعيدًا في ذاكرته ما تعرض له من انتهاكات مسيئة منذ أن وطأ السجن، تراجع مرتجفًا للخلف ليتجنب نظرات "شادوفة" المتربصة به، فلم يكن ليجرؤ على المساس به وهو بين أتباعه أو حتى يوقف إساءاته المهينة نحوه، ومع هذا تولد بداخله رغبة دفينة في قتله إن اتيحت له الفرصة ليشفي غليله منه، والانتقام ممن جعله يعايش ذلك، اتسعت حدقتاه بتوترٍ حينما التقطته عينا "شادوفة"، قرأ فيهما خسة ووضاعة لا حصر لهما، اقترب منه الأخير بثباتٍ ودون أن تبتعد نظراته عنه، وضع يده على كتفه ضاغطًا بأصابعه على عظامه ليشعره بجبروته وتسلطه، مال برأسه نحو أذنه ليهمس له بنبرة تشبه فحيح الأفعى:
-جهزي نفسك يا حلوة، في ضيوف عاوزين تعملي الواجب معاهم!
انكسارة رهيبة سيطرت عليه، وقف عاجزًا عن النطق أو الاعتراض، بهتت تعابيره وبقي متسمرًا في مكانه أمام بطشه اللا محدود، ازدادت ابتسامة "شادوفة" لؤمًا وهو يضربه بكفه على صدغه ليؤكد له أنه سيمضي ليلة أخرى مظلمة سيعاني فيها من كافة أنواع الذل والاضطهاد البدني واللفظي.
أحست بتسارع نبضات قلبها وهي تتبعه باستسلام كامل، تركت له الحرية لاصطحابها أينما يشاء، شهقت بفرحٍ وهي تحاول اللحاق بخطواته السريعة، بدا كالثنائي العاشقين اللذين يمرحان في الميناء دون أن يعبأ أحدهما بمن حولهما، تباطأت "تقى" في خطاها لتلتقط أنفاسها، شعر "أوس" بوجود مقاومة طفيفة منها، استدار برأسه ليجدها تحاول ضبط أنفاسها مع حركتها الزائدة، لذا أبطأ هو الآخر من سيره، ابتسمت له برقة، وفي لحظة برقت حدقتاها بلمعانٍ مثير حينما أبصرت ذاك اليخت الكبير الذي انتصف رصيف الميناء، تدلت شفتها السفلى في إعجاب مدهوش، سألها زوجها المتيم بها:
-ها جاهزة يا حبيبتي؟
ازدردت ريقها في حلقها الجاف لترد متسائلة بترددٍ وقد كسا وجهها تعابير حائرة:
-هو احنا هنركب ده؟
أجابها ببسمته الواثقة:
-أكيد
سألته دون تفكيرٍ:
-لوحدنا؟
حافظ "أوس" على ابتسامته الساحرة وهو يجيبها:
-يعني مش أوي، لكن أوعدك إنك هتتبسطي جدًا
شعر بالحيرة التي تملكتها، وقربها إليه ليخفف من توترها، رفعت "تقى" عينيها لتنظر إليه هامسة:
-بس أنا خايفة أتعب وأدوخ.
مسح على كتفها برفق قائلاً لها:
-متقلقيش، أنا عامل حسابي على كل حاجة، مافيش أي ضرر عليكي، والدواء بتاعك موجود لو حسيتي بتعب أو أي دوخة
لم تنكر "تقى" أنها شعرت بالرهبة من خوض تلك التجربة الحماسية المثيرة، وزاد توترها حينما أكمل حديثه الغامض:
-أنا عاوزك تسمعي كلامي في كل اللي هايحصل فوق
تلبكت من جملته الأخيرة التي أثرت حفيظتها نوعًا ما، رمقته بنظرة حائرة وهي تهتف متسائلة في ارتباكٍ:
-هو هيحصل إيه بالظبط؟
-كل خير.
داعب طرف ذقنها بإصبعيه وامتدت يده لتلامس جانب وجنتها بنعومة مغرية، أغمضت عينيها للحظة لتستمتع بلمساته الهادئة على بشرتها، عادت لتفتح جفنيها مع إحساسها بقشعريرة صغيرة تصيب جسدها بسبب الهواء المنعش الذي تناغم مع حركة أصابعه، شعر "أوس" برجفتها الخفيفة فسحبها برفق إلى أحضانه، حاوطتها ذراعيه وضمتها إلى صدره، أجبرها على السير معه نحو اليخت حتى صارت واقفة قبالته، هنا تجمدت قدماها ونظرت له ترجوه بعينيها الناعستين:
-ما بلاش يا "أوس"، خلينا هنا أحسن.
سألها مستفهمًا:
-هو إنتي خايفة؟
عضت على شفتها السفلى قائلة له بترددٍ مبررة عزوفها عن الصعود على متنه:
-ده مش خوف، بس احنا هنا مع بعض أحسن
احتضن وجهها براحتيه لتشعر بالدفء يداعب بشرتها الباردة، رمقها بنظراته العاشقة قائلاً لها بتنهيدة:
-طالما إنتي فيه هايكون أحسن مكان
تورد وجهها لتغزله بها، أسبلت عيناها نحوه فابتسم بسعادةٍ، ضمت شفتيها لتقول بحرجٍ بائنٍ:
-وبصراحة كده أنا .. مركبتش مركب قبل كده.
صحح لها معلومتها مبتسمًا:
-بس ده يخت مش مركب
عبست من قلة خبرتها في التفريق بين أنواع القارب لترد على مضض:
-كله بيغرق في الآخر!
سيطر "أوس" على ضحكة عبثية ظهرت عليه من طرفتها العفوية ليقول معلقًا عليها بمزاحٍ:
-هانقذك لو ده حصل، إنتي معاكي "أبو هيف"، سباح محترف، يعني مش حد أي كلام
تصنعت الضيق فردت بنرفزة:
-برضوه الموج عالي والجو ممكن يقلب، يعني هنغرق حتى لو كنت بطل العالم.
لم يلقِ بالاً لاستخفافها بمهاراته، أحنى رأسه قليلاً نحوها لينظر لها بإمعانٍ متفرسًا نظراتها وتعبيراتها وهو يمازحها متسليًا:
-شكلك جبانة يا "تقى"، متوقعتش تكوني كده!
أنكرت خوفها الظاهر مدافعة عن نفسها:
-لأ إنت غلطان، كل الحكاية إن...
انفلتت من بين شفتيها شهقة مباغتة وتحول وجهها بالكامل لكتلة ملتهبة من حمرة خجلة حينما انحنى بجذعه عليها ليحملها بين ذراعيه دون أن يكترث لأمر من يتلصص عليهما، تعلقت بعنقه لتتشبث به أكثر، هتفت متسائلة بحرجٍ وهي تتلفت حولها:
-إنت بتعمل إيه؟
رد ببرود مغتر غامزًا لها:
-الطبيعي يا حبيبتي
ثم سار بها بتأنٍ حذر صاعدًا على متن اليخت، ومع كل خطوة كان يخطوها إليه كانت خفقاتها تزداد، أسبل "أوس" عينيه نحوها ليتأمل احمرارها المغري خافضًا نبرة صوته وهو يقول لها:
-هنقضي يوم ما يتنسيش فوق.
خجلت أكثر من تلميحه المتواري، ورمقته بنظرة والهة متناسية واقعها المحيط بها، وما إن وصل بها للأعلى حتى أنزلها على قدميها دون أن يحرر ذراعه خصرها، أدارت "تقى" رأسها للجانب لتتأمل اليخت، كان المشهد مختلفًا كليًا عن التطلع إليه من الأسفل، بالطبع كانت مرتها الأولى التي تواجدت فيها على متن شيء ثمين كهذا، ظهرت إمارات الانبهار المختلطة بنظرات الإعجاب على ملامحها، كما تشكلت ابتسامة رقيقة على ثغرها تعبر عن تمتعها بالنظر إلى تصميمه الفريد، لم تكن لتتصور أبدًا في مخيلتها أنه سيأتي يوم وتغدو كالبطلات التي تشاهدهن في التلفاز وتصير واقفة على متن أحد اليخوت، تجسدت أحلامها على أرض الواقع وبات كل شيء ممكنا في وجوده إلى جوارها، عادت لتنظر له بامتنانٍ صامت، لمحت بطرف عينها من فوق كتفه ذلك الرجل الذي يوليهما ظهره، تحولت تعبيراتها للجدية وتساءلت بنبرة خافتة:
-مين ده؟
صف سيارته عند الناصية القريبة من المدخل المؤدي لمنطقتها الشعبية لتعذره الدخول بها إلى هناك، ترجل "يامن" منها ملقيًا بقايا سيجارته أسفل قدمه ليدعسها وهو يخطو للأمام، واصل سيره في اتجاه بنايتها القديمة التي مازال يذكر موقعها جيدًا رغم تشابه أغلب البنايات وتقاربها، نظر بفتور إلى الأوجه التي تتطلع إليه غير مكترثٍ بالهمهمات البائنة أو حتى المتوارية، حافظ على ثبات خطواته حتى بلغ وجهته، وقف عند أعتابها مترددًا، تنفس بعمق ليمنح نفسه الحافز لإكمال ما جاء لأجله، أعاد ترتيب أفكاره في رأسه حتى يبدو مقنعًا وجادًا عندما يلتقي بها..،
تحمست دمائه وارتفع الأدرينالين في عروقه لمجرد التفكير بها، بدأ في الصعود على الدرج القديم وقلبه ينبض بقوةٍ، لم يختبر مثل ذلك الشعور المثير من قبل، اضطر أن يسحب أنفاسًا عميقة ليهدئ من حماسه المتزايد، وحينما وقف أمام باب منزلها انتزع نظارته عن عينيه ليضعها أعلى رأسه، أخرج زفيرًا بطيئًا من جوفه ثم رفع يده لينقر بإصبعه على زجاج باب المنزل بعد أن قرع الجرس، انتظر متأهبًا لرؤيتها تفتحه له عندما سمع صوتًا يصيح عاليًا من خلفه:
-جاية أهوو.
ثبطت عزيمته مع استقبال الطفلة الصغيرة له والتي تفرست في ملامحه بفضولٍ، تنحنح مبادرًا بتساؤل جاد:
-"هالة" موجودة؟
قطبت الصغيرة جبينها وهي تجيبه ببراءة:
-أيوه
شعر "يامن" بالارتياح لكونها بالداخل، هدأت خفقاته المتوترة لهنيهة قبل أن تتسارع بقوة لتفكيره في رؤيتها، ومع ذلك حافظ على مظهره الجاد متابعًا قوله:
-طيب أنا عاوز أشوفها، ناديهالي
سألته مستفهمة بنظراتٍ شبه حائرة:
-إنت مين؟
أجاب دون تفكير وكأنه قد أعد الرد مسبقًا في عقله ليستخدمه عند الحاجة إليه:
-قوليلها من طرف "أوس الجندي"
اخترق الاسم آذان من كانت تسترق السمع وهي خارجة من مطبخها، كتمت "أم بطة" شهقتها وتسمرت في مكانها مذعورة، دق قلبها بعنفٍ وأحست بدمائها تفر من عروقها لاعتقادها أنه قد عرف بشأن انقطاع ابنتها عن الدراسة وبالتالي خسارتها للعائد المادي الذي تجنيه شهريًا من وراء ذلك، ارتعدت أطرافها وارتعشت، حتمًا ستخسر تلك المعونة إن عرف بالحقيقة، حاولت أن تتدارك نفسها وتسيطر على أعصابها الهاربة لتهلل مرحبة به:
-يا مرحب باللي جاي من عند الباشا.
وقعت مقلتاها على وجه "يامن" المألوف، كانت قد رأته من قبل بصحبة الثري القوي، لكنها لم تعرف هويته بالضبط، تابعت ترحيبها المتكلف به قائلة وهي تكسع ابنتها بكوعها في ظهرها لتزيحها من طريقها:
-اتفضل يا بيه
مرق "يامن" للداخل يجوب بنظراته الصالة عله يلمحها، ثم التفت نحوها ليسألها بوجه الجاد في تعبيراته:
-فين "هالة"؟
لوهلةٍ ندم في نفسه من تعجله في السؤال عنها بتلك الطريقة المكشوفة والتي قد تدفع من يسمعه للارتياب في أمره، وقبل أن يدور برأسها الهواجس علل قائلاً بثبات ليشير إلى أهمية الأمر:
-"أوس" باشا بيسأل هي مش بتروح ليه مدرستها
اهتزت نبرتها وبدت مرتبكة وهي تجيبه:
-أصلها .. كانت بعافية شوية، ف .. فخوفت تنزل و.. وتتعب بزيادة
تناقص شعوره بالارتياح ليحل بديلاً عنه القلق لمعرفته بمرضها المفاجئ، نظر لها متسائلاً بتلهفٍ لم يستطع إخفائه:
-هي تعبانة؟ من امتى و..؟
قاطعته مشيرة بكفها:
-اطمن يا بيه، دي حاجة بسيطة، شوية برد وراحوا لحالهم!
حثه إحساسه الداخلي أن بها خطبٌ ما، لذا هتف بها دون تفكير أو حتى ندم:
-طب أنا عاوز أشوفها.
باغتها بطلبه الذي ضاعف من ربكتها فحدقت فيه مذهولة لثوانٍ وبؤبؤاها يتحركان بتوترٍ كبير، تنحنح مفسرًا ليمسك بزمام الأمور كي لا ترفض:
-عشان أطمن الباشا "أوس"، ماهو لازم يتأكد إن كل حاجة ماشية زي ما هو عاوز
ابتلعت ريقها في حلقها الجاف وردت متصنعة الابتسام:
-حقه طبعًا
ثم أشارت بيدها تدعوه للجلوس:
-اتفضل استريح يا بيه لحد ما أناديهالك من جوا.
هز رأسه بإيماءة خفيفة وانتقى أقرب أريكة ليجلس عليها، هرولت "أم بطة" عائدة إلى الداخل لتتفقد ابنتها، كانت تدعو الله في نفسها أن يمر الأمر على خير، نظرت إليها أولاً من الفرجة الصغيرة لباب غرفتها فرأتها ممددة على الفراش، ولجت إلى الداخل وأغلقت الباب خلفها بحذرٍ، جلست على طرف الفراش ساحبة الغطاء من على جسد ابنتها لتهزها برفق حتى تفيق من سباتها وهي تقول لها بنبرة خافتة:
-بت يا "هالة"، اصحي يا بت.
فتحت الأخيرة جفنيها بثقلٍ ناظرة إلى والدتها بنصف عين، فقد كانت تهرب من واقعها المؤلم بالنوم المتواصل علها بذلك تنسى ما حدث لها وما أصبحت عليه، تثاءبت متسائلة بنبرتها الناعسة:
-في إيه يا ماما؟
ثم نفخت متابعة بتهكمٍ ساخر:
-ها في واحدة من الجيران جاية تشوفني تاني عشان تشمت فيا وتنأرزني بكلمتين؟
ردت عليها بتعجلٍ وقد غطا ملامحها تعابير قلقة:
-يا بت قومي بسرعة، في واحد من طرف الباشا اللي بيصرف عليكي قاعد برا!
نظرت لها ببلاهة محاولة استيعاب ما قالته، ظنت أمها أنها تتدلل عليها وتسعى لإحراجها مع الضيف المهم فنزعت عنها الغطاء هاتفة بها بصوتها المنخفض ولكن وهي تكز على أسنانها:
-بلاش التتنيحة دي وقومي شوفيه، وأديني بأحذرك مش عاوزين مشاكل معاه، خلي يومك يعدي وقوليله إنك كنتي تعبانة وعندك برد.
أظهرت "هالة" عدم اهتمامها بما أملته عليها، بل إنها سحبت الغطاء من يدها لتضعه على رأسها في ذهول تام منها، لكزتها "أم بطة" بقسوة في جانبها هامسة لها بغيظٍ:
-إنتي معندكيش دم يا بت، بأقولك الراجل قاعد برا من طرف البيه "أوس"، وإنتي ولا على بالك!
أبعدت الغطاء عن وجهها لترد بامتعاضٍ ووجهٍ فاتر التعبيرات:
-عاوزاني أعمله إيه يعني.
أجابتها بنفاذِ صبرٍ:
-تقومي تقابليه وتفهميه إنك كنتي تعبانة بدل ما يقطع عننا القرشين اللي موقفين البيت ده على حيله، ولا إنتي غاوية فقر وعاوزانا نتبهدل أكتر من كده؟!
استاءت من تحميلها اللوم في كل كارثة تلحق بالعائلة، فاض بها الكيل من إلقاء الذنب دومًا عليها، وهي بالكاد تحاول النجاة من تلك الحياة القاسية التي لا تكف عن إذاقتها ألوان العذاب، لذا ردت عليها بعدم مبالاة:
-طب ما تقوليله إني سبت التعليم خالص، أو حتى ماتت مش هاتفرق كتير!
ضجرت والدتها من برودها غير المقبول فأمسكت بكومة من شعرها تجذبها منه بشراسة لتجبرها على النهوض من على الفراش، تأوهت "هالة" من الألم وحاولت تخليص خصلاتها من بين أصابعها، لكنها كانت قابضة وبقوة عليها، شددت أكثر من قبضتها، ضغطت على أسنانها تتوعدها:
-جرى إيه يا بت، اتهبلتي في مخك ولا جرى لعقلك حاجة؟
قاومتها "هالة" بضعفٍ:
-آآه، سيبي شعري.
قست أكثر عليها والدتها وهي تتابع بقلبٍ خالٍ من العطف:
-ولا تكونيش مفكرة إن الحكاية سايبة؟ إنتي هنا تحت طوعي، تعملي اللي أقولك عليه والجزمة فوق رقبتك
ثم دفعتها بعنف للأمام لتنكب على وجهها وهي تبكي بقهرٍ مرير، لم ترفق بها أو تشعرها بعاطفتها الأمومية نحوها، كانت قاسية لأبعد الحدود، وضعت "أم بطة" يدها أعلى منتصف خصرها بعد أن وقفت أمام ابنتها ترمقها بنظراتها الحقود لتواصل تعنيفها:
-ياختي لو مش همك نفسك شوفي إخواتك، عاوزاهم يتشردوا عشان سيادتك؟.
رفعت "هالة" عينيها الباكيتين لتنظر لها بعتابٍ ولوم، خرج صوتها مغلفًا بالشجن:
-وهايفيد بإيه كلامي من عدمه بعد ما بقيت كده؟ وإديكي شايفة الناس بتبصلي إزاي
ردت بنبرة جليدية جافة أظهرت جفاء قلبها وقسوة مشاعرها:
-بس يا عين أمك هو مايعرفش، خلينا نستفيد من القرشين اللي بيطلعونا من علامك، بدل ما يبقى موت وخراب ديار!
ألمها بشدة جمود مشاعرها نحوها وعدم إحساسها بما تعانيه في صمت، فمن المفترض أنها فلذة كبدها، قطعة من روحها، لكنها لم تشفق بها أو حتى تشاطرها عواطفها، لذا علقت عليها بحزنٍ مقهور:
-ده اللي همك بس؟
ردت بنبرة أكثر جفاءً:
-أيوه، وقومي بقى الجدع يقول إيه لما يلاقيكي اتأخرتي كل ده!
انحنت والدتها نحوها لترفعها من أسفل ذراعيها حتى تتمكن من النهوض، أدارتها إليها ثم مسحت براحتيها دمعاتها المنسابة على وجنتيها، ادعت الابتسام قائلة لها كذبًا:
-يا عبيطة ده أنا أمك وغرضي مصلحتك
لم تقتنع بكلماتها الأخيرة، هي لا تهتم إلا بنفسها فقط ولا تكترث أبدًا ببناتها حتى وإن كن على شفا حفرة من الموت، رققت أمها من نبرتها لتدفعها لتنفيذ رغبتها حتى لا تعاندها وتفعل العكس وتتسبب في المزيد من الفضائح:
-البسي طرحتك وداري دراعتك وكأن مافيش حاجة حصلت، قولي الكلمتين اللي حفظتهوملك وخلي اليوم يعدي على خير، ماشي ياختي.
لم يكن الرفض بالخيار المتاح، حتى أنها تركت لها مهمة إلباسها حجاب رأسها وهندمة قميصها المنزلي فلا تظهر آثار الحروق على جلدها أو عنقها فيشمئز الضيف الغريب منها وبالتالي ترى في عينيه نظرات التأفف والنفور، انساقت بعدها باستسلامٍ مهزومٍ كالمغيبة خلفها وآخر ما قد يطرأ ببالها وجوده هو تحديدًا بالخارج.. من أجلها هي...!