رواية أوتار الفؤاد أوس الجزء الثاني تأليف منال سالم الفصل الرابع
( الجزء الخامس من ذئاب لا تعرف الحب )
أصوات مزعجة متداخلة مختلطة بسعالٍ متحشرجٍ ومتكرر ضاعفت من ذلك الصداع المؤلم برأسها، تأوهت "هالة" بأنين خافتة شبه مسموعة وهي تحاول تحريك جسدها المتيبس، فتحت جفنيها ببطءٍ حذر ثم عاودت غلقهما سريعًا بسبب قوة الإضاءة، رمشت بعينيها لعدة مرات حتى تعتاد حدقتيها عليه، أزعجتها الضوضاء القريبة منها فالتفتت نحوها لتجد إحدى النساء تصرخ بعصبيةٍ.
لم تفهم أين هي وماذا تفعل هنا، لكنها كانت متأكدة أنها ليست بالمنزل أو بمفردها، ارتفع الثخب من جديد فتشنج وجهها، أدارت رأسها للجانب الآخر لتجد شابة ترتدي زيًا أبيض اللون تغرز حقنة ما في ذلك السائل المتدلي من الحامل المجاور لفراشها المتواضع، بحاجبين معقودين ظلت محدقة بها لبعض الوقت حتى استدارت الممرضة نحوها، رسمت ابتسامة سخيفة مصطنعة على ثغرها لتقول مُرحبة بعدها بروتينية معتادة:
-حمدلله على سلامتك
تفقدتها بشكلٍ صوري متابعة حديثها:
-عشر دقايق والدكتور هيجي يشوفك.
شعرت "هالة" بوخزاتٍ حادة في كفيها مما أجبرها على رفعهما للأعلى قليلاً لتنظر إلى الشاش المغلف لهما، تعقدت ملامحها وحدقت بشرودٍ في الفراغ محاولة تذكر ما حدث لها أو ما الذي أصاب يديها، تدريجيًا بدأ عقلها في استيعاب الأمر، إنه القميء "منسي"، تربص بها واعترض طريقها عن عمدٍ وفي لحظة مباغتة ألقى نحوها بمادة ما كادت تُصيب وجهها وألهبت جلدها، لا إراديًا تلمست بأطراف أناملها المرتجفة وجهها لتتأكد من كونه بخير، فقط قطعة متوسطة من الشاش الطبي تغطي الجزء السفلي من عنقها وفتحة صدرها، غفلت عنها وركزت حواسها مع ما تتلمسه، تنفست الصعداء مرددة لنفسها:
-الحمدلله.
أحست بتسارع خفقات قلبها وبتوتر أنفاسها، ظلت تتنفس بعمقٍ لتسيطر على الاضطراب الذي اعتراها، حملقت في الممرضة متسائلة بقلقٍ:
-طب أنا بأعمل إيه هنا؟
رمقتها بنظرة جافة بطرف عينها قبل أن تتجاهل الرد عليها وتتجه نحو مريضة أخرى تتمدد على الفراش المقابل، تحركت حدقتاها معها والفضول يقتلها لتعرف مصيرها، لذا صاحت بنفاذ صبر:
-ردي عليا، أنا حصلي إيه؟
نهرتها إحدى المريضات التي سئمت من صراخها هاتفة:
-ما كفاية دوشة بقى صدعتينا! احنا مش ناقصين خوتة، كفاية القرف اللي احنا فيه
حركت "هالة" رأسها في اتجاه صاحبة الصوت القاسي، فرأت امرأة متجهمة الوجه، غليظة الطباع، ملامحها توحي بالعنف واستعدادها لفعل ذلك ملموس بشكلٍ كبير، ابتلعت ريقها في حلقها الجاف، وردت مدافعة عن نفسها بتلعثمٍ:
-أنا بسأل عن اللي جرالي، غلطت في إيه يعني؟
لوحت بذراعها مهاجمة إياها باستهزاءٍ:
-ما إنتي زي الجن أهوو، غيرش بس شوية الشاش على إيديكي دول.
بالرغم من وقاحة ردها الفظ إلا أنها شعرت بالارتياح لكون وجهها بخير، رمقت تلك المريضة بنظرة خاطفة من طرف عينها ثم أخفضت رأسها لتتأمل يديها من جديد، أنت بخفوت من الوخزة الحادة التي أصابتها وهي تقلب كفيها مما أعاد القلق سريعًا لها، احتارت "هالة" في أمرها ودار برأسها الكثير من الهواجس، انتشلها من تفكيرها الموسوس الأصوات المألوفة لوالدتها وأختها، تعلقت عيناها على الفور بوجهيهما، وتبدلت قسماتها المشدودة بتعبيرات ارتياحية لوجودهما، حاولت أن ترفع جسدها على الوسادة القديمة لتعتدل في نومتها، تأثرت لحضورهما فامتلأت عيناها بالعبرات، دنت منها "بطة" بخطوات متعجلة واحتضنتها بتلهفٍ ثم قبلت إياها من أعلى رأسها وهي تقول لها:
-حبيبتي يا "هالة"، شدة وتزول إن شاء الله.
ضمتها أختها بحذرٍ لتتجنب الألم المباغت الذي يصيبها كلما حركت كفيها، ردت عليها بابتسامة متفائلة:
-كويس إنكو جيتوا، شوفتوا "منسي" البلطجي استقصدني وكان عاوز ي...
قاطعتها وهي تمسح على وجنتها برفق:
-عرفنا كل حاجة، داهية تاخده مطرح ما هو قاعد، ولاد الحلال ودوه القسم وهياخد جزاته
بكت قائلة بحرقةٍ:
-منه لله، أنا معملتلوش حاجة عشان يبهدلني كده
ردت مواسية بلطافةٍ:
-قدر ولطف يا حبيبتي، الحمدلله إنها جت على أد كده.
كانت "هالة" متلهفة لحضن والدتها، تشتاق إلى ضمتها الحنون، لكن لم تمنحها الأخيرة أبسط أمنياتها، جلست بازدراء على طرف الفراش تجوب بنظرات ممتعضة ووجهٍ متأفف المكان المحيط بها إلى أن توقفت عيناها أخيرًا على ابنتها، أغفلت عن نظراتها المتعطشة لها لتعطيها فقط نظرة ساخطة، نفخت قائلة بتذمرٍ وهي تشيح بعينيها بعيدًا عنها:
-ماتفرحيش أوي ياختي، محدش عارف مستخبيلنا إيه تاني
عاتبتها "بطة" بنظراتها المحذرة وهي ترد:
-استبشري خير يامه، "هالة" قدامك أهي بخير وزي الفل
مصمصت شفتيها بحركة مستنكرة ثم استندت بطرف ذقنها على مرفقها لتضيف بتبرمٍ:
-الله أعلم إن كانت كده ولا هنلاقي بلاوي سودة تانية.
نكست "هالة" رأسها خجلاً من تلميحها الغامض والذي يشير بدرجة كبيرة إلى مصائب أخرى قادمة، كم تمنت في نفسها لو لامست فيها عطفًا أموميًا غزيريًا يشعرها بأنها تخاف عليها حقًا، خاب رجاؤها وانطفأت نظراتها مع تجاهلها وجفائها القاسي، صاحت والدتها عاليًا:
-فين الضاكتور اللي هنا يجي يقولنا هتفضل هنا ولا هتمشي من المخروبة دي؟
انعقد حاجبا "بطة" بغيظ من تنمرها الزائد وردت عليها:
-مش نطمن عليها يامه، الحمدلله وشها بخير ومجرالوش حاجة..
أشارت أمها بعينيها الحانقتين إليها قائلة لها:
-هيبان لما تشيل الشاش ده اللي حطاه في كل حتة
نهرتها بلطف وهي تكز على أسنانها:
-مش وقته يامه
أصابتها رجفة خفية من جملتها المربكة، لذا نظرت "هالة" إلى أختها بعدم فهم متسائلة:
-هي بتكلم عن إيه؟
أحست "بطة" بالمخاوف التي اعترت أختها فعمدت إلى إلهائها عن التفكير في ذلك راسمة ابتسامة زائفة على محياها وهي تقول لها:
-متخديش في بالك، بكرة تروقي وتبقي كويسة، المهم عندنا إنك معانا وربنا نجاكي من شره
هزت "هالة" رأسها باقتناع وهي تتصنع الابتسام أيضًا لتعاود التحديق في وجه والدتها جامد التعبيرات بعينين حزينتين، شعرت "بطة" بما يجيش في صدر أختها من مشاعر مقهورة، فهي مثلها اختبرت جفائها في أصعب المواقف وأشرسها، وتعرف جيدًا معنى أن تكون الأم متحجرة القلب وقاسية في مشاعرها.
انتهى النادل من وضع فنجان القهوة أمام الرجل الوقور بعد أن قدم لمضيفته قهوتها السادة، تأكد من إتمام عمله على أكمل وجه واضعا تلك البسمة الروتينية على محياه قبل يحني رأسه قليلاً للأسفل ثم استدار مبتعدًا عنهما ليشرع الاثنان في استكمال حديثهما الجاد، جلست "رغد" بأريحية على مقعدها مركزة عينيها على وجهه ذو الملامح الخبيثة والتعبيرات الماكرة، استطردت قائلة ونظراتها بالكامل مسلطة عليه:
-بابا قالي إنك تعرف كل حاجة عن عمي "مهاب".
ابتلع المحامي "نصيف" ما ارتشفه في جوفه ليسند فنجانه أمامه، تنحنح مستهلاً جملته بهدوءٍ حذر:
-الله يرحمه د. "مهاب"، كان غالي عندي أوي
كانت مدركة أنه يتحاذق عليها فجارته في حزنه الزائف قائلة:
-أكيد
توقفت للحظة عن الحديث لتضيف بنبرة غامضة:
-بس مش أغلى من شيك على بياض تحط فيه الرقم اللي إنت عاوزه
ضاقت نظرات "نصيف" متسائلاً:
-تقصدي إيه بالظبط؟
استقامت "رغد" في جلستها وبدت أكثر جدية عن ذي قبل لتجيبه بثباتٍ:
-مصلحتك ومصلحتي!
ثم مدت يدها نحو حقيبة يدها الصغيرة لتخرج منها ورقة صغيرة مطوية، ظلت عيناها موجهة نحوه وهي تمرر الورقة بين إصبعيها لتعطيها له، تصنعت الابتسام داعية إياه لتناولها:
-اتفضل
أخذها "نصيف" لينظر بفضول إلى الشيك الذي بحوزته للحظات معدودة، عاد ليرفع رأسه نحوها ثم سألها بتأنٍ:
أجابته بوجهٍ جليدي في تعبيراته:
-اعتبره عربون بيزنس مهم بينا.
طوى الورقة بعد أن ألقى نظرة ثانية عليها دون أن يعيد التفكير مرتين في القبول بعرضها المغري بالنسبة له، دسها في جيب سترته الداخلي ورسم تلك البسمة السخيفة التي عكست رضاه على ثغره، أخرج زفيرًا بطيئًا من صدره ليسألها بتريثٍ:
-وإيه المطلوب مني؟
توحشت نظراتها وهي تجيبه:
-معلومة أستفيد بيها في حربي ضد ابن عمي
هز رأسه معلقًا:
-"أوس الجندي".
-بالظبط، إنت عارف كويس الوضع بقى إيه دلوقتي والمشاكل الكبيرة اللي بدأت بينا
-أيوه
ظهرت ابتسامة جانبية لئيمة على شفتيها قبل أن تنطق:
-وطبعًا أي حد هيساعدني في حربي دي أو يساعد بابا هايكون ليه مكافأة كبيرة
داعب "نصيف" طرف ذقنه بإبهامه وهو يصغي إلى وعودها السخية بالمزيد من المال، تنهد قائلاً:
-مافيش مانع عندي، طالما كله بحسابه
سألته دون تفكير وقد زاد وهج نظراتها الشيطانية:
-ها عندك اللي يفيدني؟
رد بثقةٍ تامة وهو يمسك بفنجان قهوته:
-أكيد.
صمت للحظة ليضيف تشويقًا متحمسًا إلى حديثه ليتابع بعدها بكلمة مقتضبة:
-"ليان"
زوت "رغد" ما بين حاجبيها متسائلة بعدم فهمٍ وقد استشعرت وجود خطب ما وراء التطرق إلى أمرها:
-مالها؟
خلى وجهه من التعبيرات وهو يجيبها:
-مش بنت عمك!
اتسعت حدقتاها في ذهول مصدوم وانفرجت شفتاها للأسفل عن اندهاش غير مسبوقٍ من رده الذي سيقلب الموازين حتمًا ويضفي المزيد من الإثارة في صراعها الدؤوب مع خصمها القوي.
تناول الحرس الحقائب من الخادمة ليتم رصها بانتظام بداخل صندوق السيارة، في حين تأبطت "تقى" ذراع "ليان" وسارت معها بتمهل في اتجاه سيارة "عدي" التي اصطفت على مقربة من المدخل الرئيسي للفيلا الخاصة بزوجها، تبادلت معها حديثًا وديًّا آملة أن تخفف قليلاً من حالة الوجوم الحزين المسيطر عليها، فبالرغم من مكوثها لعدة أيام هنا إلا أنها كانت مقتضبة في كلامها معها، فقط الصمت والنظرات الشاردة والتحديق في الفراغ لوقتٍ طويل، خشيت "تقى" عليها من أن تنساق مجددًا نحو دوامة الاكتئاب الذي بالكاد تعافت منه، وما إن شاهدهما "عدي" حتى ترجل من سيارته ليستقبل زوجته ببسمة لطيفة، تحاشت "ليان" النظر نحوه.
كان إحساسها بالذنب متمكنًا من كل جوارحها مما جعلها غير قادرة على التطلع إليه أو حتى الاسترسال في الحديث معه، استلت ذراعها بهدوء من "تقى" لتستقل السيارة قبل أن يفكر "عدي" في تقديم المساعدة لتصيبه بالإحباط مجددًا من تصرفاتها الجافة معه مؤخرًا والتي تؤكد له عن يقين بائن عزوفها عنه، ظل يلاحقها بنظراتٍ حزينة مزعوجة عكست حيرته وضيقه في نفس الآن حتى انتزعه من إمعانه بها صوت "تقى" القائل:
-كام يوم وهتبقى كويسة، مش سهل اللي مرت بيه.
رد عليها بزفير ممتعض:
-أنا مقدر ده كله، بس يا ريت هي تديني الفرصة، وإنتي شايفة بنفسك هي عازلة نفسها عننا
ضغطت على شفتيها في أسفٍ، كان محقًا في قوله، ومع ذلك بررت تصرفاتها قائلة:
-معلش، كله هيعدي، وبيتهيألي الرحلة اللي طالعينها هتفرق معاها
أومأ برأسه متمتمًا:
-أتمنى ده
تصنع الابتسام ليردد بامتنانٍ:
-شكرًا يا "تقى" على تعبك معانا، أنا مش عارف أقولك إيه، المفروض إنتي ترتاحي الفترة دي و...
قاطعته بعتابٍ رقيق:
-متقولش كده، "ليان" مش مراتك بس، دي بنت خالتي الغالية، إنت نسيت ولا إيه؟
حافظ على ابتسامته الباردة قائلاً:
-ربنا يخليكم لبعض
تنحنحت متابعة بخفوتٍ:
-هاروح أشوف "أوس"، عن إذنك
أشار لها بيده معقبًا:
-اتفضلي.
تابعها للحظات حتى وصلت إلى سيارة "أوس" ثم استدار متجهًا إلى سيارته ليركب بجوار زوجته، وما إن رأته "ليان" يقترب منها حتى انكمشت على نفسها وأشاحت بوجهها بعيدًا عنه ليشعر بغصة مريرة تضرب حلقه، تحلى "عدي" بالصبر وتنفس بعمقٍ ليحافظ على هدوئه معها، فهو بالكاد يحاول التأقلم مع حالتها النفسية المضطربة مؤخرًا.
على الجانب الآخر، ألقت "تقى" نظرة خاطفة على الخدم المرابطين أمام زوجها في انصياعٍ تام وهو يلقي على مسامعهم أوامره الصارمة، لوحت بيدها للخادمة "ماريا" التي جلست بالخلف في السيارة لتبقى بجوار ابنتها الصغيرة، استدارت برأسها نحو "أوس" راسمة على محياها ابتسامة رقيقة، وضع الأخير ذراعه حول كتفي زوجته ليحاوطها ويضمها إلى صدره وفي نفس الوقت يجبرها على السير معه نحو سيارته، رفعت رأسها لتنظر إليه عن قربٍ قبل أن تهمس بشفتيها:
-تفتكر إن توقيت الرحلة مناسب؟
أجابها بثقة ليبدد مخاوفها الواضحة في عينيها الزرقاوتين:
-كلنا محتاجين ده يا حبيبتي
ردت بقلقٍ ملموس في نبرتها:
-بس الظروف والوضع، أنا حاولت أقنع "ليان" لحد ما وافقت، بس مش ضامنة إن كان التغيير ده هيأثر فيها ولا لأ
علق بغموضٍ زاد من حيرتها:
-أنا متفق مع "عدي" على بروجرام حلو لينا كلنا، فاطمني.
أشعرتها كلماته الواثقة بالارتياح، اكتفت بالإيماء برأسها ثم أخفضت نظراتها لتحدق في يده التي امتدت لتفتح باب السيارة لها، تورد وجهها من معاملته الراقية معها وإشعارها دومًا بأنها ملكته الغالية المتوجة على عرش قلبه، هتف بها مشددًا بحزمٍ:
-خدي بالك
ابتسمت له محركة رأسها بالإيجاب:
-حاضر.
كان حريصًا للغاية على سلامتها خلال تلك المرحلة من حملها ليكتمل على خير، وبالطبع لم يكن ليقوم بأي خطوة فيها دون الرجوع إلى طبيبتها الخاصة واستشارتها، وما إن تأكد "أوس" من استقرارها في مقعدها حتى أغلق الباب والتف حول مقدمة سيارته ليجلس خلف المقود، دقائق معدودة وانطلقت السيارات تتبع بعضها البعض في اتجاه الطريق المؤدي للمنتجع السياحي الذي قام بالحجز فيه بإحدى المدن السياحية بالبحر الأحمر لتقضي عائلته بالكامل وقتًا مميزًا هناك للترويح عن الجميع بعد تلك الفترة العصيبة من الضغوط المستمرة.
كانت السلوى بل ربما طوق النجاة المتاح حاليًا لإخراجها من الحصار النفسي الذي أجبرت نفسها على البقاء فيه، فمنذ تعافيها وخروجها من المشفى بعد اكتمال شفائها وقد باتت مقلة في حديثها، منعزلة عن الجميع وخاصة هو؛ زوجها وحبيبها، لذا كان اقتراح "أوس" بالسفر وقضاء أوقات أسرية معًا هو الخيار الأنسب بالنسبة لهما تحديدًا، التفت "عدي" برأسه للجانب ليتأمل "ليان" الشاردة، كانت الأخيرة مستندة بجانب رأسها على الزجاج، أخرج نفسًا بطيئًا مهمومًا من صدره قبل أن يناديها:
-"ليوو".
انتبهت لندائه الهادئ فاستدارت ببطء نحوه دون أن تنبس بكلمة، تعلقت نظراته بوجهها الذابل وهو يسألها باقتضاب:
-جاهزة للرحلة؟
لم تمنحه إلا ردًا فاترًا:
-يعني
تحامل على نفسه ليتجاوز جمودها معقبًا بحماسٍ ادعاه:
-هايكون شهر عسل جديد بالنسبالنا يا بيبي.
وكأنه أخطأ في الوصف دون قصد ليعود إلى ذهنها ذكرى الفترة الأولى في حياتهما الزوجية حينما رفضها عن عمدٍ كنوع من التأديب القاسي لوقوعها ضحية خداع أحدهم، ابتلعت ذلك العلقم الذي ملأ جوفها وأدارت وجهها بعيدًا عنه لتخفي نظرات الانكسار والحزن المقروءة في عينيها، أدرك "عدي" أنه لم يكن موفقًا تلك المرة في انتقاء كلماته، ضغط على شفتيه بندمٍ وحاول تلطيف الأمور فأردف قائلاً:
-أنا واثق إن المكان هيعجبك.
تجاهلت الرد عليه أو حتى النظر نحوه، أخفض "عدي" نظراته ليحدق سريعًا في يدها الموضوعة بإهمال على حجرها، عاد ليتأمل الطريق أمامه وصدره يعصف بجنون، فمنذ ذلك الحادث المؤسف الذي تعرضت له اختفت ضحكاتها المرحة، وانطفأت نظراتها المشرقة وذبلت حيويتها النضرة، حتى أنها فقدت رغبتها في فعل أبسط الأشياء التي اعتادت على فعلها ضمن روتينها اليومي، زفر بتمهلٍ ليخرج الشحنة السلبية المنتشرة بداخله، ثم مد ذراعه ليمسك بكفها، انتفضت مع لمسته المفاجئة، وبحنكة احترافية امتص فزعها المريب له ليقوس شفتاه فتظهر ابتسامة مبتورة، تنهد قائلاً لها:
-عاوزين نقضي وقت حلو هناك، اتفقنا.
سحبت كفها بصعوبة من بين أنامله القابضة عليها لترد باقتضابٍ:
-أوكي
عادت لتشيح بوجهها من جديد مما أثار غضبته، ومع ذلك لم يعنفها على جفائها الزائد عن المقبول، فخسارتها لا تخصها وحدها، هو أيضًا يقاسي الأمرين من فقدان جنين تمناه طوال عمره.
على الرغم من صمته الظاهري إلا أن الصخب الدائر في عقله كان كفيلاً بتفتيت خلاياه، لم يكن "أوس" ليمرر ما حدث لأخته الصغرى دون تحريه لحقيقة الأمر، خاصة بعد حواره مع "جايدا" التي أكدت له ترصد أحدهم ب "ليان" وإصابتها عن قصد مما ضاعف من شكوكه المستثارة مسبقًا.
بدأ في تجميع أطراف الخيوط معًا، فتوقيت ذلك الحادث المشؤوم كان متزامنًا مع الحملة الشرسة المقامة ضد شخصه للإساءة إلى سمعته والإطاحة بمؤسسته بعد الجريمة الأخلاقية التي اتهم بها وأشعلت الأجواء، انتابه هاجسًا بأن ل "رغد" ضلعًا في ذلك، ومع هذا لم يجزم بحقيقة تورطها في الأمر، فلماذا تحاول الانتقام من أخته وهي لم تضرها؟ لكنه رغم ذلك سعى وراء ذلك الخيط عله يصل لغايته، كاد رأسه ينفجر من كثرة التحليل والتفكير، لم يشعر بلمسات زوجته الحنون على ذراعه، وحينما زادت من ضغطها على ساعده لينتبه لها رمقها بنظرة نارية مخيفة، ارتاعت "تقى" من طريقة تحديقه بها، ازدردت ريقها وهي تسأله بحذرٍ:
-إنت كويس.
أجابه بنبرة جافة للغاية:
-أيوه
أضافت بتفاؤل وهي لا تزال محتفظة بتعبيراتها البشوشة:
-كل حاجة هتعدي، مش إنت بتقولي دايمًا كده؟
هز رأسه مغمغمًا:
-أكيد
-انسى كل حاجة وخلينا نركز في الأجازة دي
-أنا ناوي أعمل كده.
ورغم يقينها بأنه سيفعل العكس ولن يتوقف عن البحث عن الحقيقة إلا أنها حاولت أن تكون ذلك الصدر الحنون الذي يلتجأ إليه في شدته ليبوح لها بمكنون أسراره، شعرت بتصلب عروقه مع رنين هاتفه المحمول، أبعدت ذراعها لتنظر بفضولٍ إليه، راقبت تعابيره بتأنٍ ولاحظت التبدل العنيف في ملامحه الجامدة لتصير أكثر عدائية وشراسة، قست نبرته متسائلاً:
-الكلام ده مظبوط؟
أتاه الصوت الرجولي من الطرف الآخر مرددًا:
-أيوه يا باشا، محدش زاره إلا واحدة بس
بات "أوس" قاب قوسين أو أدنى من التأكد من ظنونه، صدق تخمينه حينما تابع الرجل بترددٍ:
-اسمها "رغد سامي الجندي"
توهجت نظراته بوحشية مخيفة وهو يرد عليه بنبرة أشعرت "تقى" بالذعر:
-ابعتلي الورق وكل التفاصيل فورًا
-حاضر يا فندم.
أنهى "أوس" معه المكالمة دون إضافة المزيد، في حين سيطر الفضول على "تقى" التي أرادت سؤاله عما حدث، خرج صوتها مهتزًا وهي تسأله:
-في حاجة جدت؟
لم يلتفت نحوها، بل بقيت حدقتاه المشدودتان مركزة على الطريق وهو يجيبها:
-لأ
اعترضت عليه متسائلة بإلحاحٍ:
-بس شكلك بيقول غير كده
رمقها بنظرة أجفلت بدنها من طرف عينه قبل أن يقول بصلابة:
-قولتلك مافيش يا "تقى"، شغل ومتعطل
هزت رأسها بإذعان:
-تمام يا حبيبي، بس احنا متفقين إن الوقت ده بتاع العيلة، يعني المفروض شغلك ومشاكله مالوش مكان في الأجازة دي
رد بعبوسٍ:
-اطمني، أنا عارف إزاي هاظبط أموري.
حاولت "تقى" إشعاره بأنها تشاركه ولو وجدانيًا، لذا لم تتردد وهي تميل بجسدها نحوه لتقترب منه، حاوطت ذراعه بيديها واستندت برأسها على كتفه، أسبلت نظراتها نحوه لتطالع وجهه القاسي عن قرب، همست له بتنهيدةٍ ناعمة:
-بأحبك.
كان لنبرتها ورقتها تأثير السحر عليه، فهي الوحيدة القادرة على تبديل حالته المزاجية في لحظات، حيث تدفقت الدماء المنتعشة في عروقه مع وهج نظراتها المشرقة لتثبط قليلاً غضبه المستعر في داخله، ومع هذا لن يكف أبدًا عن البطش والانتقام ممن تسبب بالأذى للأقرب إليه حتى لو كان الرابط الذي يجمعه به هو رابط الدم...!