رواية أوتار الفؤاد أوس الجزء الثاني تأليف منال سالم الفصل الثالث عشر
( الجزء الخامس من ذئاب لا تعرف الحب )
قبضت على ذراعها بيدها الغليظة ودفعتها للأمام دفعًا دون أن تأبه بتذمراتها أو شكواها وكأنها بهيمة تُساق إلى جزارها لينحر عنقها، تعثرت وانكفأت على وجهها ومع ذلك لم تقدم لها يد المساعدة، بل جذبتها بطريقة مهينة لتكمل سيرها معها، تعجبت "ناريمان" من تلك المعاملة الجافة والتي تغيرت كليًا عما كانت تتلقاه قبل فترة قصيرة ليصبح الوضع على النقيض مهينًا، مذلاً، ويحمل في طيانه اعتدائًا لفظيًا وجسديًا. أحست بأظافر السجَّانة تُغرز في لحمها فتأوهت معترضة:
-بالراحة شوية.
لم تنظر نحوها وتابعت سيرها قائلة بصوتها الخشن نسبيًا:
-امشي يا مسجونة قدامي، احنا مش في نادي يا روح أمك!
اشتعلت نظراتها من فظاظتها فنهرتها بعصبيةٍ:
-إيه الكلام البيئة ده؟ أنا بنت ناس و...
قاطعتها بصوتها الجاف وهي تنظر لها بتعالٍ:
-كلكم بتقولوا كده وإنتو جايين من صفيحة الزبالة!
اغتاظت "ناريمان" أكثر من بشاعة كلماتها فأطبقت على شفتيها بقوةٍ لتمنع نفسها من التفوه بأيٍ حماقات، تنفست بعمق لتضبط انفعالاتها، ثم ابتسمت قائلة في غرور وهي ترفع أنفها قليلاً للأعلى في عنجهية واضحة:
-شكلك جديد هنا في المكان، وأنا عذراكي، ماهو برضوه إنتي مش عارفة ولاد الأصول من بتوع الشوارع، عمومًا أنا "ناريمان" هانم و...
ابتلعت باقي حديثها المتباهي في جوفها مصدرة تأويهة متألمة بسبب لكز السجَّانة لها بعنف في جانب كتفها لتوجعها، رمقتها بنظرة حادة غاضبة، ومع ذلك كانت ردة فعل الأخيرة غاية في البرود، ثم ردت قائلة بتأففٍ متعمدة التقليل من شأنها:
-لأ يا مسجونة، أنا عارفة أشكالكم كويس، ودي المعاملة من هنا ورايح، وامشي عدل بدل ما تتحطي حبس انفرادي
ارتفع حاجبا "ناريمان" للأعلى في استنكارٍ جلي، تحدثت مع نفسها في عدم تصديقٍ:
-في حاجة غلط أكيد، مش معقول تكون دي الطريقة، أنا كنت تقريبًا زي الملكة هنا، لازم أتكلم مع "رغد"، ده مكانش اتفاقي معاها!
على الجانب الآخر، جلس في مكتبه متأهبًا واضعًا ساقه فوق الأخرى وناقرًا بأصابعه على السطح الزجاجي لمكتب مدير السجن، فبعلاقاته الواسعة ونفوذه الكبير استطاع أن يحصل على تصريحًا استثنائيًا لزيارتها في ذلك التوقيت المتأخر. كان مضطرًا لذلك، ليوقفها عند حدتها، ولتدرك أن من تدعمها بالخارج قد باتت واقعة في قبضته، وبين لحظة وأخرى سيدعسها دون رحمة. شرد "أوس" بعقله متذكرًا الدقائق الحرجة أثناء مواجهته الشرسة مع المحامي "نصيف" عندما أشهر سلاحه في وجهه ليجبره على البوح بكافة ما يخفيه من أسرارٍ خطيرة، لم ينسَ نظرات الرعب المطبوعة في حدقتيه وهو يتوسله باستجداءٍ ليصفح عنه:
-أنا.. مستعد أعمل أي حاجة عشان سيادتك تسامحني، أنا برضوه كنت الدراع اليمين لوالدك المرحوم، أمر بس وأنا تحت أمر سيادتك، ومن غير مقابل!
كانت نظرات "أوس" قاتمة للغاية، لا تنذر ببادرة مغفرة، بل كانت أكثر حدية وإظلامًا، ضاقت حدقتاه وهو يرد بقسوةٍ:
-مابطلبش مساعدة من خاين!
ارتجف أكثر وهو يطلب باستماتةٍ:
-يا باشا ...
تجاهله لتبدو توسلاته لا جدوى منها، كان "أوس" قاصدًا إرعابه حد الموت، أن يلقنه درسًا قاسيًا ليعلم جيدًا أن المساس به أو بما يخصه ليس له إلا نهاية واحدة؛ ألا وهي الفناء..
نزع "أوس" زر الأمان عن مسدسه فارتعدت فرائص "نصيف" على الأخير، انحبست أنفاسه في صدره، وجحظت عيناه مترقبًا انتهاء حياته على يده، وفي لحظة صمت مميتة خرقها صوتًا يعلمه الجميع، إطلاق النيران. طلقة واحدة كانت تعرف الطريق إلى هدفها، أطبق "نصيف" على جفنيه بقوة شاعرًا بانفجار قلبه بين ضلوعه من فرط دقاته العنيفة، صرخ قدر استطاعة حنجرته، وظن أنه الموت لا محالة...
خيم السكون على المكان، الكل مترقب للخطوة التالية، هنا ضغط "أوس" على الزناد دون أن يخطئ هدفه، ابتسامة قاسية واثقة من نجاحه اعتلت ثغره، ونظرات استمتاع متفاخرة غطت وجهه وعكست الرهبة على من حوله، فقد مرت الطلقة بجوار أذن خصمه الخائن لتجرحها بألم مفزعٍ، التقط "نصيف" أنفاسه وهو يكاد لا يصدق أنه نجا من الموت، انخلع قلبه من مكانه، ولو كان غير مقيد اليدين لتحسس صدره ليتأكد من أنه لا يزال يتنفس وعلى قيد الحياة. أخفض "أوس" مسدسه وقد ازداد شموخًا بوقفته المتصلبة، خرج صوته مزلزلاً مرعبًا لمن حوله:
-مش بالساهل أسامح، بس ليك فرصة تانية وده إكرامًا للمرحوم!
هلل "نصيف" في عدم تصديق وهو يكاد يبكي فرحًا لنجاته من موت محتوم:
-أؤمر يا باشا، وأنا من إيدك دي لإيدك دي!
عاد "أوس" إلى واقعه المحيط على صوت فتح باب الغرفة، استقام أكثر في جلسته لتظهر عليه علامات الهيبة والقوة على كامل شخصه، تجمدت نظراته الجافة على السجينة التي مرقت منكسة الرأس ليقابلها خصيصًا. خرجت شهقة مصدومة من "ناريمان" حينما أبصرته جالسًا كعادته في علوٍ ومُهابة على المقعد، رددت على الفور وهي ترمش بعينيها لتتأكد من حقيقة وجوده:
-إنت؟!
تحرك ثغره للجانب قليلاً ليظهر ابتسامة متكلفة قبل أن يرد عليها بنشوةٍ:
-مفاجأة مش كده؟
سألته بانفعالٍ ظهر عليها:
-جاي ليه يا ابن "مهاب"؟ تتشفى فيا؟
استند بطرف ذقنه على راحة يده يحدجها بنظراته القاسية، قال لها في برودٍ مستفز:
-لو كنت عاوز أعمل كده كنت جيت من زمان.
ردت عليه بعصبية أكبر وقد احمرت بشرتها واشتعلت:
-أومال إيه اللي حدفك عليا؟
ردد بتهكمٍ قاصدًا الضغط على كلمته الأولى:
-حدفني! اتغيرتي أوي يا "ناريمان"، بقيتي شبه اللي هنا!
استشاطت حنقا من تلميحه الصريح بتدني مستواها ومخالطتها لأرباب السجون ومحترفي الإجرام، وما استفزها أكثر نظراته المؤكدة على احتقاره لها، صرخت بلا وعي مشيرة بيدها نحو باب الغرفة:
-أطلع برا، أنا مش عايزة أشوفك!
هنا هب "أوس" واقفًا وهو يضرب بقبضته القوية سطح المكتب لتنفض ذعرًا من التحول السريع في تصرفاته ليصبح أكثر خشونة وعدائية هادرًا بها:
-مش بمزاجك، إنتي جاية هنا بمزاجي أنا، وهتفضلي هنا لحد ما تعفني وتدفني بالحيا!
كزت على أسنانها حنقًا من كلماته المستفزة، اشتعلت عيناها بحمرة دموية تكاد تنفجر غضبًا. ردت عليه في هياجٍ متناسية أنه لم ينطق سوى بالحقيقة:
-مش هايحصل إلا في أحلامك!
تحدث من زاوية فمه قائلاً عن ثقة أخافتها:
-هاتشوفي!
حاولت أن تبدو متماسكة أمامه فعقبت عليه بصوتها الغاضب:
-إنت جاي تهددني؟!
أومأ برأسه مؤكدًا ببساطة شريرة:
-أيوه.
اتسعت حدقتاها مرددة:
-إيه؟!
تابع قائلاً بخشونة وقسوة مهددة:
-وعشان ماضيعش وقتي مع أمثالك، فإنتي هتشوفي أيام أسود من اللي شوفتيها هنا أول ما جيتي!
حملقت فيه غير مصدقة أنه بالفعل يعترف أمامها عن نيته المبيتة لإذاقتها كافة ألوان العذاب، وقبل أن تستجمع جأشها لتسأله تابع "أوس" تهديده العدواني:
-وده واحد على عشرة من اللي هاتعشيه كل يوم، هاتطلبي الموت ومش هاتطوليه يا "ناريمان".
أحست بقبضة قوية تعتصر قلبها، شحبت بشرتها المشبعة بحمرتها الغاضبة لتبدو باهتة عما كانت عليه قبل ثوانٍ معدودة، استطاعت بذكائها الحاد نسبيًا أن تستشف سبب قدومه، لكنها أبت أن تعترف بذلك بينها وبين نفسها، آملت أن تكون مجرد تكهنات وظنون. وقف "أوس" قبالتها مكملاً بفحيح أجفل بدنها:
-غلطتك الوحيدة إنك اخترتيني أنا بالذات عشان تلعبي لعبتك القذرة دي معايا، ومجاش في بالك إني مابرحمش، ومابغفرش
هربت شجاعتها الزائفة وتبخر استبسالها المصطنع لتبدو أمام هيبته كالفرخ المبتل، بلعت ريقها نافية بتلعثمٍ:
-ده مش.. حقيقي، أنا...
هدر بها بقوة جعلتها ترتد للخلف خشية أن يتطاول عليها باليد وهو يسألها:
-جتلك الجراءة تدخلي "ليان" في لعبتك دي؟
ارتجفت شفتاها بشكل ملحوظ وهي تدعي كذبًا:
-أنا.. مش فاهمة.. إنت بتكلم عن إيه؟
تحرك نحوها ليقلص المسافات بينهما فتصبح محاصرة منه قائلاً لها بصوتٍ أجش:
-لأ إنتي فهماني كويس!
توهمت "ناريمان" أنها لو ظهرت أمامه بمظهر الخائف المرتعد لنجح في فرض سطوته عليها وربما كشف أمرها، لذا تسلحت من جديد بقوةٍ زائفة، دفعته من جانب كتفه بكتفه لتمر من جواره، لم تلتفت نحوه وسألته بوجهٍ ساخطٍ في تعبيراته:
-كلمني بصراحة، بلاش المقدمات الطويلة دي.
حانت منها نصف التفاتة برأسها وهي تكمل بنبرة تميل للتحدي:
-وعشان تبقى عارف أنا مابتهددش!
رفع حاجبه للأعلى معلقًا عليها بابتسامة غامضة وشبه ساخرة منها:
-تمام، استحملي بقى، وخليها تنفعك، ده إن مكانتش هتحصلك قريب!
جف حلقها من جديد من تلميحه المتواري، شعرت بمرارة العلقم تجتاحه، توترت أنفاسها عندما سألته:
-مين دي؟
قبض على ذراعها ليديرها بالكامل إليه، نظر في عينيها مباشرة وهو ينطق بكلمة واحدة:
-"رغد".
ابتلعت ريقها بصعوبة، حاولت لملمة شجاعتها المبعثرة قبل أن ترد:
-وأنا مالي بيها!
شدد من قبضته عليها قائلاً لها من بين شفتيه بلهجة تهديدية:
-كل حاجة اتعرفت خلاص، واللي غلط هيتحاسب!
انحشر صوتها في جوفها وبدا واهنًا للغاية حينما حاولت استعطافه:
-يا "أوس" أنا ...
هدر بها بصوتٍ جهوري مُهدد قذف في قلبها الرعب:
-اسمي "أوس" باشا "الجندي! ماتنسيش نفسك معايا!
أدركت "ناريمان" أنها موضوعة في موقفٍ حرج للغاية، بين مطرقة وسندان، حاولت أن تبقى على الحياد بعد أن أدارت بحسبة سريعة في عقلها تبعات مساعدتها ل "رغد" فقالت بدبلوماسية:
-إنت مش فاهم حاجة، هي جات تزورني وخلاص، يعني حاجة عادية
لم يقتنع بحرفٍ واحدٍ مما تفوهت به، هزها بعنف وهو يهددها صراحةً:
-وإنتي هتدفعي تمن زيارتها ليكي، وأذيتك لأختي
اضطربت دقات قلبها من قسوة شراسته، استجدته بعينين شبه دامعتين:
-اسمعني الأول و...
قاطعها بلا رحمةٍ:
-إنتي ضيعتي "ليان" زمان بوساختك، وأنا مش هاستنى تعيدي ده تاني معاها.
تيقنت حينها أنها فتحت على نفسها أبواب الجحيم، بكت تتوسله عله يرفق بها ويشفع لها خطيئتها:
-"أوس"، إنت غلطان، استناني لو سمحت واسمعني، أنا مرات أبوك برضوه
دفعها بخشونة بعيدًا عنه ليُطرح جسدها أرضًا وهو يرد بنبرة ميتة ووجه قاتم:
-مات الكلام
نظرت له "ناريمان" بعينين مفزوعتين، تهدجت أنفاسها وبكت من تلقاء نفسها ندمًا على قرار اتخذته دون أن تحسب عواقبه جيدًا.
-إيه رأيك يا حبيبتي؟
تساءلت "تهاني" بتلك الكلمات المهتمة ونظراتها مركزة على وجه ابنتها الحزين، أرادت أن تُشركها معها في عملها بدار رعاية المسنين حتى تتوقف عن التفكير في جم المصائب التي عاشتها في الآونة الأخيرة وانعكست على نفسيتها بالسلب، اجتمعت بها في المنزل الجديد الذي أهداه لها ابنها البكري بعد أن تم تجهيزه بالكامل على أحدث طراز ليصبح ملائمًا للسكن، أخرجت "ليان" تنهيدة مطولة من صدرها قبل أن ترد بفتورٍ واضح:
-ماليش مزاج أعمل حاجة.
ربت أمها على كتفها قائلة بحنوٍ ربما تتخلى عن عنادها وتوافق على عرضها:
-يا حبيبتي إنتي لو فضلتي في الحالة دي كده كتير هتتعبي بزيادة، وعلى فكرة شغل الدار ممتع وحلو، وأنا واثقة إنه هيعجبك ويسليكي.
نفخت ابنتها مرددة:
-سيبني يا مامي يومين كده أفكر وأرد عليكي.
لم تحاول الضغط عليها أكثر من ذلك فابتسمت قائلة بألفةٍ:
-براحتك يا قلبي، وأنا معاكي في اللي تختاريه.
هزت رأسها في استحسانٍ وهي تطالعها بنظراتٍ متأملة، فوالدتها هي الوجه الطيب للأم التقليدية الحنون والمليء قلبها بالعطف والمشاعر النبيلة. أضافت "تهاني" مؤكدة:
-كمان عايزاكي تعرفي حاجة مهمة.. أنا معنديش أغلى منك إنتي ولا أخوكي "أوس"، حياتي كلها ليكم، وأنا مستعدة أعمل أي حاجة عشان أشوفكم مرتاحين في حياتكم ومبسوطين.
بلا أي مقدمات ضمتها "ليان" إلى صدرها لتستشعر دفء أحضانها، حثتها رغبة مُلحة لفعل ذلك، واستجابت أمها لرغبتها غير المنطوقة وضمتها إليها، همست لها بعاطفتها الأمومية الصادقة:
-ربنا يخليكي ليا، ويحفظك يا بنتي من كل سوء.
بقيت كلتاهما على تلك الوضيعة لبعض الوقت دون أن تنتبها لتلك الفضولية التي اقتحمت المنزل بعد توضيبه، مسحت "فردوس" الصالة بنظرة متسعة عكست انبهارها بالتجديد الجذري الذي طرأ على ذلك المكان المتهالك ليصبح أشبه بالمنازل الفاخرة التي كانت تشاهدها في المسلسلات، رددت بصوتٍ مرتفع مستخدمة كلتا يديها في الإشارة:
-إيش إيش، أنا مكونتش أعرف إن البيت بالحلاوة دي، لحق ابن اللذينة ده يعمله امتى؟
ابتعدت "تهاني" عن ابنتها لتنظر إلى أختها بنظراتٍ مزعوجة، رحبت بها على مضضٍ:
-أهلاً يا "فردوس"
مصمصت الأخيرة ثغرها قائلة بسخافةٍ:
-إيه ياختي المقابلة الناشفة دي!
ثم تركز بصرها على "ليان" فرسمت ابتسامة عريضة تمتد من الأذن للأذن وهي ترحب بها بلطفٍ زائد عن المعهود:
-الله، مش تقوليلي إن بنت أختي حبيبتي عندنا، عيب عليكي يا "تهاني"!
تصنعت "ليان" الابتسام وهي تلوح لها بيدها مرددة:
-هاي
اقتربت منها "فردوس" جاذبة إياها نحوها وهي تعاتبها بوجهٍ مُدعي العبوس:
-إيه هاي دي كمان؟ تعالي في حضن خالتك يا بنت الغالية.
ثم انهالت على وجنتيها بعشرات من القبلات المتتابعة، ابتعدت عنها "ليان" بصعوبة وهي تنظر لها مذهولة مما فعلته، جذبتها "تهاني" نحوها لتقول بضيقٍ بدا واضحًا عليها:
-معلش "ليان" مش واخدة على كده.
لوت ثغرها معقبة بتهكمٍ وتعبيرات وجهها تشير إلى امتعاضها:
-هو أنا حد غريب، ده أنا خالتها، وبنتي تبقى مرات أخوها، يعني كلنا عيلة في قلب بعض.
انزعجت "تهاني" من أسلوبها الرخيص الذي لا يتغير دومًا مهما عصفت بها الظروف، ستظل كما هي ناقمة، ساخطة، متنمرة على من حولها، نفخت بضيقٍ قبل أن تسألها مباشرةً:
-إنتي عاوزة حاجة يا "فردوس"؟
ردت بعينين تبرقان بشكلٍ مريب:
-كنت جاية اسألك هتاكلوا معايا تحت ولا لأ، بس شوفت الهلومة اللي هنا ومصدقتش عينيا!
فهمت تلميحها المتواري عن الثراء الذي تتنعم به حاليًا، وقبل أن تسيء "ليان" فهم أسلوبها بررت والدتها على الفور ببسمة متكلفة:
-خالتك "فردوس" بتحب تهزر كتير يا "ليان"
هزت "فردوس" شفتيها للجانبين كتعبير عن استنكارها، ثم أضافت بتذمرٍ:
-طب طالما ابنك مستخسر يودينا حتة أبُهة ما يوضبلنا المخروبة اللي عايشين فيها تحت، هما كام ألف هيعضلوه؟
قطبت "ليان" جبينها بشكلٍ غير مفهوم وهي تطالع خالتها بتعجبٍ، استاءت "تهاني" من أسلوبها البغيض في التسول وطلب العطف من الآخرين، تحركت نحوها لتدفعا من كتفيها نحو أعتاب باب المنزل وهي تقول لها:
-"فردوس" جوزك بينادي عليكي
قاومتها قائلة:
-بس أنا مسمعتوش!
نجحت في إيصالها عنده وهي ترد بإصرارٍ:
-أنا سمعته، مع السلامة
فهمت "فردوس" سبب معاملتها الفظة معها فعاتبتها بتعبيراتٍ متجهمة:
-بتكرشيني ياختي؟!
ردت عليها ببرودٍ:
-لأ، بس "ليان" محتاجة ترتاح، عن إذنك
علقت عليها بتأفف:
-اللي إداكو يدينا يا عينيا!
قالت لها "تهاني" بنفاذ صبر وقد تحولت ملامحها للضيق التام:
-ادعي إنت بس وصفي النية.
ثم صفقت الباب في وجهها لتبتعد الأخيرة وهي تغمغم بعبارات ناقمة تكاد تكون مسموعة للجيران، زفرت "تهاني" مطولاً مرددة لنفسها بصوتٍ خفيض:
-يا ساتر عليها، اللي فيه طبع عمره ما هيتغير أبدًا!
أزاحت الستائر البيضاء عن النافذة الزجاجية لتتطلع إلى الحديقة الخضراء التي تطل عليها غرفتها، انشغلت بالتفكير في تصرفاته الأخيرة معها، حيث جمعت بين الرقة، والمحبة، والاهتمام، و.. الشغف. وجدت "هالة" نفسها تبتسم في نعومة طغت على أي تشوهات كانت ترعبها من قبل، تلمست ندوبها التي تعلو جلد ذراعها بأناملها في رفقٍ، لم تشعر بالضيق مثل السابق، بل على العكس كانت أكثر تصالحًا مع وضعها الحالي، تلاشت ابتسامتها وانتفضت بارتباكٍ حينما سمعت صوته المألوف يسألها:
-جاهزة؟
التفتت "هالة" نحوه ترمقه بنظرة متوترة وخجلة، كان "يامن" كالعادة لطيفًا، ودودًا، مبتسمًا، ووجهه يعكس سعادة مثيرة للاهتمام. توقفت عن تأمله قبل أن تسأله بتلجلجٍ:
-إيه اللي جابك؟
أجابها ببساطةٍ ودون زيف:
-جاي عشان أوصلك.
لم تنكر أن إصراره على التواجد بقربها يشعرها بالانتشاءِ والغرور، بل ويرضي تلك النزعة الأنثوية بها، ردت بكبرياءٍ زائف رافضة عرضه السخي:
-أنا مش محتاجة مساعدة.
كان يعلم جيدًا أنها تراوغه بتمنعها عنه ورفضها الاعتراف بما تكنه من مشاعر بريئة نحوه رغم عينيها التي تفضحها وإيماءاتها التي تكاد تنطق عنها، ومع ذلك ادعى البراءة قائلاً لها بلهجة تقارب الرسيمة:
-دي مش مساعدة، ده تكليف من ابن عمي
ردت عليه بابتسامة مازحة:
-والله أنا شاكة إنك بتقول كده
كانت ابتسامتها ساحرة، لامست أوتار فؤاده وعزفت عليه مقطوعة خاصة بها فزادته رغبة فيها، قاوم ما يعتريه من أحاسيس ثائرة ليرد بهدوءٍ يناقض حالته الحالية:
-ممكن تسأليه!
ثم أخرج هاتفه المحمول من جيبه ليناوله لها وهو يكمل:
-اتفضلي كلميه واتأكدي بنفسك
ردت رافضة دون تفكيرٍ وقد أحست بالندم لظنها السيء به:
-لأ.. شكرًا
أولته ظهرها لتكمل جمع وتوضيب متعلقاتها الشخصية، وقف "يامن" خلفها يتأملها بنظراتٍ دقيقة، كان مهتمًا للغاية بكل ما تفعله حتى وإن كان بسيطًا، باتت شاغله الأكبر، بل اهتمامه المُطلق مُؤخرًا، شعرت "هالة" بصوت أنفاسه قريبة منها وهو يسألها بلباقةٍ:
-تحبي أشيل معاكي الشنط؟
ردت بحرجٍ مشيرة بيدها نحو حقيبة صغيرة في الحجم ودون أن تنظر نحوه:
-أنا معنديش أصلاً شنط، دي يدوب كام حاجة بسيطة هاحطهم هنا
أومأ برأسه متفهمًا:
-مافيش أي مشكلة، خدي راحتك وأنا هستناكي في الريسبشن
-اوكي.
قالتها دون أن تنظر نحوه مدعية انهماكها في ترتيب أشيائها داخل الحقيبة، نفخت بصوت مسموع حينما سمعت صوت غلق الباب وتوقفت عما تفعل لتجلس على طرف الفراش والحيرة تكسو ملامحها، لامت نفسها لجفائها غير المقصود معه وهو لم يبادلها سوى الاحترام والاهتمام. ورغم انصرافه إلا أن الغرفة كانت لا تزال معبقة برائحة عطره الثمين فزكمت أنفها، أغمضت عينيها واستنشقت بشهيق عميق آثارها العالقة في الهواء، عادت لتفتح جفنيها ورددت مع نفسها متسائلة وهي تعض على أناملها:
-يا ترى هو فعلاً بيحبني زي ما قال ولا مجرد..
قطعت تفكيرها الوردي فيه متخيلة أنه يخدعها بحرفية شخص ماكر يمتلك دهاءً عظيمًا ليوقعها في فخ الحب ثم يسلبها الشيء الوحيد الذي تملكه، خرجت منها شهقة مرتعدة، توترت وارتبكت وأحست بتلاحق نبضاتها، ولكن ما لبثت أن نفضت تلك الهواجس المتشائمة لتقول لنفسها بحزمٍ:
-"هالة" بلاش الأفكار دي، أكيد لو بيلعب بيكي "أوس" باشا مش هايسكتله!
حاولت أن تضع "يامن" في قالب الشخص الشهم المحب لها دون أن تمنحه أي شيء إلى أن يمل منها أو أن يثبت العكس؛ حبه العفيف لها.
لم تكن عابئة بما يفعله أو يقوم به في الفترة الأخيرة، لكن أثار فضولها رؤيته يجمع ثيابه وكل ما يخصه في نفس الحقيبة التي أتى بها، وبكل برود اتجهت إليه "رغد" لتقف إلى جواره تسأله:
-إنت بتعمل إيه؟
نظر لها "أكرم" شزرًا قبل أن يجيبها باقتضابٍ:
-ماشي!
سألته بسذاجةٍ:
-إيه ده هتسافر؟
كان من السخافة أن يرد عليها، بدت بالنسبة له غير مرئية، تجاهلها عن عمدٍ ليحضر أوراق سفره وتأشيرة العودة من درج الكومود ويدسها في الجيب الأمامي لحقيبته، اغتاظت من وقاحته فصاحت متسائلة بعصبيةٍ ملحوظة:
-رد عليا يا "أكرم"، أنا مش بأكلم نفسي! إنت هتسافر؟
تجمدت نظراته الجافية على وجهها قبل أن يرد بضجرٍ:
-أيوه، أظن وجودي هنا مالوش لازمة!
بررت عزوفها عن مشاركته في أي شيء قائلة:
-إنت شايف أنا مشغولة إزاي و..
قاطعها بعدم مبالاة وهو يعلق حقيبته على كتفه:
-مش عاوز أعرف حاجة، إنتي حرة في تصرفاتك!
أمسكت به من ذراعه تهزه بعصبية وهي تصرخ به:
-"أكرم" إنت المفروض تكون واقف جمبي
رد هادرًا بخشونةٍ وهو ينفض يدها عنه وكأن عقربًا لدغه:
-في الغلط؟ في الجنان اللي بتعمليه ده وهيضيعك ويضيعنا معاكي؟!
صرخت مبررة بعنادٍ مهلك:
-لازم أخد حقي منه، أشوفه مدمر!
سألها بيأسٍ:
-ليه يا "رغد"؟ وضحيلي.
ضغطت على شفتيها كاتمة غضبها المحموم، بماذا تفسر له سبب إصرارها على النيل من ابن عمها؟ فقد تحول الأمر من مجرد انتقامٍ أعمى لرد اعتبار والدها لمسألة أخرى أكثر عمقًا واتصالاً بالماضي، هي تنتقم لتركه لها رغم المقومات المتكاملة التي تمتلكها، تنتقم لنبذه إياها وتفضيله غيرها وانغماسه في الملذات المحرمة قبل أن يستقيم ويتزوج من هي أقل منها شأنًا بكثير، من لا تستحق المقارنة معها، من لا تليق باسمه والتواجد إلى جوار شخص مهيب مثله، طال صمتها وتأكدت الظنون التي أنكرها "أكرم" في البداية، ومع هذا احتفظ ببقايا رجولته الجريحة ليرد بكرامةٍ مدافعًا عن الرمق الأخير فيه:
-طبعًا مش لاقية رد مناسب تجاوبي بيه عليا.
كان شجاعًا بدرجة غير مسبوقة ليكمل مصارحًا إياها بحقيقتها العارية:
-أقولك أنا، لأنك عمرك ماشوفتيني جوزك، ولا أبو ولادك، إنتي طمعانة إنه يبصلك، عاوزة تشبعي غرورك بعد ما رفضك، واللي جننك بزيادة إنه خد واحدة أقل منك في كل حاجة وبقت في حياته كل حاجة!
خفق قلبها بقوة من تعريته لنفسها أمام بكل تلك الجراءة، لم تعهد منه ذلك، فبدت صدمة قوية عليها، وضعت يديها على أذنيها رافضة الإصغاء إليه وهي تصرخ به:
-كفاية بقى، مش عاوزة اسمع!
لم يأبه بها وواصل هجومه الكلامي الشرس عليها:
-إنتي اعتبرتيني صفر على الشمال في حياتك طول السنين اللي فاتت، واجهة اجتماعية وبس، لكن جه الوقت اللي هاتكوني فيه مكاني!
أخفضت يديها لتسأله بحيرة وقد تعقدت تعبيرات وجهها العابس:
-قصدك إيه؟
أجابها بقسوةٍ وهو يحدجها بنظرة احتقارية:
-ورقة طلاقك هاتكون عندك عشان تبقي حرة في حياتك!.
وكأنه قدم لها الحل الذهبي لكل مشاكلها معه بقراره الخطير، ابتسمت لتستفزه قبل أن ترد غير مكترثة:
-يكون أحسن!
بذل "أكرم" مجهودًا عنيفًا ليسيطر على غضبه الذي اندلع بداخله، فمثيلاتها من الزوجات الجاحدات لا يجوز التعامل معهن بالإحسان، ومع ذلك وإكرامًا لأولاده كان محترمًا معها حتى اللحظة الأخيرة، لكنه كان حاسمًا حينما أوضح لها:
-وولادك مالكيش دعوة بيهم
سألته ساخرة وكأن أمرهم لا يعنيها:
-هتحرمني منهم؟
رد موضحًا بتهكمٍ:
-هما مكانوش أصلاً فارقين معاكي.
كان محقًا أيضًا في تلك الجزئية، فهي بالكاد تعرف ما يخص صغارها، فالأمومة بالنسبة لها عائقًا أضاع عليها الكثير وهي غير مرحبة بها، وحينما لم يجد منها "أكرم" أي تذمرٍ أو شكوى تأكد أن ما قرره كان الخيار الأفضل لكليهما، لتنعم بجحيمها وينعم هو بأحضان صغاره، رمقها بنظرة أخيرة وهو يضيف بجدية تامة:
-المحامي هيتصل بيكي يسوي كل الإجراءات.
لوحت له بأصابعها لتستفزه:
-مع السلامة.
احمر وجهه غضبًا وبدا وكأنه ينفث دخانًا من أذنيه، اندفع نحو الأمام بخطوات متعجلة ثم خرج من الغرفة صافقًا الباب بعنفٍ مفرط، ألقت "رغد" بجسدها على الفراش لتتمتم مع نفسها بابتسامة غير مبالية وقد أحست بأنها أزاحت ثقلاً كبيرًا كان يجثو على صدرها:
-good .. that’s much better for us.. (دي أحسن حاجة لينا) ...!