رواية أهذا زوجي و ليلة دخلتي للكاتبة ميمونة كاليسي الفصل التاسع
وصل سام الى حي ذات طابع قديم، ركن سياراته قرب جداران المساكن المتناثرة، لا تزال على رونق التي عرفته أوربا في أول قرن العشرين، تحتفظ بلونها البرتقالي أو تربي، يغضي أسطحتها قرميد زاهي اللون، و من شرفاتها تتدلى النباتات و الأزهار، فتكحل الجدران
كان جمالا طبيعيا قدم في تلك البقعة، ترجل من سيارته.
أولج في باب حديدي صغير ثم إرتقي في سلم، ينظر أمامه، تأخده دهاليز الدكريات حينا كان يتردد في هذا المكان ليقابل حبيبته، لازالت الجدران قديمة تكلست عليه خرائب الدهر..
وقف برهة قرب باب شقتها، أخد نفسا عميقا..
دق بدقات متتالية..
أنا سام، أفتحوا الباب.
فتحت له الباب، بدت كأنها أعدت للإنتظار، دخل بشيء من الإرتباك، لقد مضى وقت طويل آخر مرة تردى الى هنا، منذ أن أسلمت لم تسمح له بالدخول! دائما ما كانت تقابله خارج شقتها، في المطاعم، المقاهي، الحديقة، أي مكان غير شقتها..
لاح في نظراته طفلة صغيرة لم يراها من قبل
من أنتي؟! و أين أليان!
داعبها قليلا من رأسها
تلعثمت الفتاة
أنا، بينكي، خالتي في الغرفة هناك
أهلا بينكي و أنا سام
هتفت بجدل.
عرفتك من الصورة في الحائط، لابد و أنك خالي سام
توجه نحو الغرفة
سبقها صوت أليان قبل أن يدخل
إنتظر سام
بقي لقترة قرب باب غرفتها حتى تتستر..
سمحت له بالدخول، لم يرى في البدء سوى عينيها الغائرتين
ثم طغى عليه شحوب و ينظر نحولة وجهها و عينيها اللتين إختفى في محجريها العميقتين..
يا إلهي، لقد نحلت كثيرا يا عزيزتي؟! ماذا حدث لك.
نهضت من فراشها لإستقباله، حتى بهت بطولها الفارع من شدة هزلها، وجهها الضامر، و كتفيها أخمصين التي تظهر وراء عباءة الطويلة التي تنساب من رأسها نحو الأرض، تجر ذيله من خلفها..
لا مُرِّية أنها تعاني من شيء ما، فتقدم نحوها بطيش، يمد أطراف أصابعه نحو جبينها برفق، ذون أن يزيح ناظريه عن عينيها
تمتم بإرتياح
لا يوجد حرارة
أذاع عن وجه أليان إستياء
- لا يجوز لك أن تلامسني هكذا يا سام!
- أنا آسف، كنت قلقا.
حاشية لوسي (١):
غابت لوسي وعيها، إستفاقت على دراع شاب فرنسي غريب وسط الشارع، و موظف المطعم يرشرش الماء في وجهها، و هناك حشد من الناس تجمعوا حولها
- هل أنت بخير يا آنسة، هل أنت بخير؟!
- أظنها لا تعرف الفرنسية، مسكينة، تبدوا ضائعة!
أخدت ثوان أستوعب أين أنا؟! و ما حدث؟!
ردد الشاب و أنا لا أزال بين ذراعيه، لقد رفعنا مثل الريشة تماما
- آنستي، يا آنستي.
إنتفضت بحجمي الهزيل، وضعني برفق، أنتصب بقامتي على الأرض، كان شاب فارع الطول، تتدلى فوق جبينه شعر ناعم رمادي اللون، لديه وجه قمري رائق و شارب بدأ يخط أول ملامحه بين قسمات وجهه
قلت بمضمض:
- شكرًا لك
- تعرفين الفرنسية
- آه أعرفها..
- تبدين ضائعة
إرتبكت قليلا
- لا لست كذلك!
- لا تخافي، لدي أخت مسلمة مثلك!
- بصراحة أنا أريد بطارية، هل لذلك واحد؟!
- أرني أياها لو سمحت.
أخرجت هاتفي من حقيبتي الملقات على الأرض، لازال رأسي يدور و أحسه ثقيلا بين أكتافي
تفحص هاتفي قليلا، رد بإمتعاض
هذا النوع غريب، أظن أن أختي لديها واحدة مثلها!
- هل تقول بأنني لن أحصل شاحنة لهاتفه هنا
- لا يا عزيزتي
عاودني الغثيان مرة أخرى، ترنح العالم حولي، أمسكني الشاب بلطف من دراعي قبل أن أهوى على الأرض
شكرته بإقتضاب
رد
أنت لست بخير، هل آخدك الى المستشفى!
- لا شكرًا. أحتاج الى شاحن فقط.
- حسنا، دعني آخدك الى منزل أختي
إرتبكت، عبرت وجهي عن الإمتعاض
- لا شكرًا..
كانت علامات الإرهاق و الغثيان واضحة على قسمات وجهه، لم أملك سوى أن أثق هذا الغريب و أذهب الى منزل أخته كما يقول، رددت أيات قرآنية في داخلي
أخدنا سيارته الجيب الى حي ذات طابع قديم..
كانت الغثيان تراودني بين حين وآخر
ساعدني الغريب قليلا لأصعد السلالم، أحس الوعكة أكبر من قلقي على دخول منزل غريب..
حاشية سام (٢)
تمددت أليان فوق غظاء سريرها، مسندة رأسها على ذراعها المنحنية، فأنساب عبائتها يحلل جسمها النحيل حتى بلغ قدميها الدقيقتين
نظرت الى سام برهة طويلة، تبتسم له في ود، بنظرات مفحصة، غريبة، ذون أن تتكلم
و سام مأخوذ بوجومه و حزنه و قلقه عليها، تراوده شعور بإهمال حبيبته فكان ينظر اليها بإرتباك لاهيا على صمتها، لم يراها بعد ليلة الحفلة، كيف غابت عن باله..
ألقى نفسه بكرسي خشبي قرب فراشها.
سمع صوتها الهادئ المرهف يقول لها:
- تغيرت كثيرا يا سام..! أرى النضارة والبهاء قد تدفق في ملامحك! ما الغريب في ذلك؟! فأي رجل في مكانك متزوج حديثا يلمع مثلك..
بوغت سام لكلامها
- لا تتوارى خلف ألفاظ مبهمة با أليان، قل لي لماذا أخفيت مرضك عني..
ردت بتسلية أنثى ماكرة
لا يعجبني سؤالك حبيبي، فأنا لا أحب أن أكون متطفلة في حياتك الزوجية الخاصة!
سكتت لبرهة، تنازع في سام عوامل متضاربة في داخله و هو يستمع إليها.
تابعت بشيء من الغرور هل تحب تلك الفتاة؟!
- أنا أحبك أنت يا أليان! أنت تعرفين لماذا تزوجت لوسي، هي لم تكن سوى وسيلة لنحصل ميراثنا كما أقنعتني من قبل!
إتسمت بسخرية مهدبة
أنت تقول هذا الكلام و لكن عيناك يخولان بشيء آخر، مثلا ما كانت آداب اللياقة أنت تترك ضيفتك في ليلة الحفلة منذ لقائك الأول معها بعد فترة من أجل إرضاء زوجتك!
- هل تعتبرين نفسك مجرد ضيفة! و الآن مجرد مضيفة!
- أنا لست صديقتك و لا أقربك أبدا، إذن ماذا سأسمي نفسي فأنا لا أحب إسم العشيقة، إنها تنفرني و تذل كرامتي! أن ألعب دور العشيقة في حياتك ترسم مستقبلي بصورة متشائمة تدعوا الى اليأس و الضياع!
رد سام بصوت واجم
- أنا لا أرسم و لا أخطط، يكفي أن تنظر إلي جيدا، أنا مغرم بك، أتتعجبين كيف حافظت حبي لك حتى هذا الوقت في هذا الظروف! أنا لا أناقض نفسي، قد أكون متزوج و لكن قلبي دائما يحفوا في ذكراك، أنا أحبك أنت يا أليان، تلك الفتاة لا تعني لي شيئا!
حاشية لوسي ؛
صعدنا السلالم ببطء كان يتعبني أيضا، وصلنا الى الحافة، إنزوينا نحو اليمين قليلا، وقفنا قرب باب خشبي يعلوها رقم ٩..
أخرج المفتاح في جيبه، أدارها على الباب مرتين..
إنفتحت، تراءت لي طفلة جميلة، هرولت نحو الشاب و هو تقول
- با با، بابا
إرتاح لي بالي..
تناهى في آذاننا أصوات واضحة تخرج نحو فتحة باب أمامي
رد الشاب
- لا تقلق، لابد و أنها أختي و أحد أصدقائها، هيا أدخلي
إزداد وضوح الأصوات..
- إذن تلك الفتاة لا تعني لك شيئا، قل لي بصراحة هل تستتطيع طلاقها بسهولة...
- صحيح! لم لا، سأطلقها إن كان هذا يرضيك..
مهلا
مهلا...
هذا الصوت المتهكم..
هذه النبرات الآمرة واجفة...
تبدوا مألوفا.
تجمدت في مكاني، أنظر نحو الباب الأمامي بصمت، مشدودة..
تلاحقت الأصوات التي تنبعث من غرفة مفتوحة...
الحاشية (٤):
إنتفضت أليان من فراشها، مستوية، و أنحنت تجاهه ممسكة بيده
هل تقسم لي يا سام، بأنك ستطلق تلك الفتاة! هل تقسم لي بكل ما هو مقدس عندك؟! هل تقسم؟!
فتح سام عينيه حائرا و مستغربا في نفس الوقت لحماسها المفاجئ، طغى ملمس يديها على إحساسه، لم يكن يتصور أليان الفتاة المتعصبة لدينها بهذا التصرف، كانت دائما مقتنعة على زواج الأربع للرجال، إذن مالذي غير تفكيرها بهذه السرعة..
قال وأجفا بشيء من التردد.
صدقيني! سأطلق لوسي بعد س...
قاطعته بحماس
ياإلهي، كنت أعلم أن تلك الفتاة لم تكن سوى وسيلة لنحصل على ميراثنا حبيبي، حتى نستطيع ان نعيش حياة راغدة، أنت دائما صادق معي يا سام، أليس غريبا كيف تزوجت فتاة جميلة و لكنك لم تقترب منها لأجل خاطري، و ستطلقها دون تردد!؟أنت ضحيت الكثير لأجلي يا حبيبي! و لا أعرف كيف سأرد لك يوما كل هذا الحب و الإهتمام التي تغدق علي!
أتعرف أن الجميع كان يشك مني عندما حثثتك على زواج أخرى لأجل إطاعة جدك، قالوا لي بأنني لا أحبك و لا اهتم لأمرك
لمعت عينيها في غضب متماسك و تابعت:
يظنون أنني أسعى وراء ميراثك! حقيرون! يظنون أنني وراء المال! لو كان الأمر هكذا، لماذا أنا هنا متمددة فوق فراشي، هزل جسمي حتى غدت أحشائي الضامرة عاجزة عن حمل نفسي، فقدت شهيتي لأنني ظننت أنني خسرتك يا سام!
تساقطت في عينا سام دموع دافئة..
أنا آسفة يا عزيزتي، صدقيني أنت لم تخسرني، إن زواجي مجرد صفقة لا أكثر، لو تعرفين أنني لا أنظر الى لوسي حتى كإمرأة عادية لما ساورك كل هذا القلق و الشكوك، إنها فتاة سطحية لا تتمتع أي معالم أنثوية يمكن أن تثير حتى رجل عاجز..
مكثت لوسي لبرهة، ملتصقة بذلك الباب، تسمع كل أحاديثم الودية و الإزدراء التي يبعث غصة حزن في خنجرتها...
الدموع تسيل منها بصمت مثل نهر جارف
رأسها منحنيا نحو الأرض، عينيها الواجمتين ثابتتان نحو الأسفل، الى أن أصاب كتفيها خدر، فأغمي عليها.
تابع سام حديثه
قل يا أليان، من إتهمك بأنك وراء ثروتي.!
قالت بصوت واجم خافت
- من غيرها، أنها سلمى التي خانت صداقتنا و أيضا...
قاطعهم ضجيج و جلبة تأتي نحو الردهة..
إنتفض سام من جلسته
ماذا يحدث؟!
هرع نحو الردهة، و أليان تلملم أطراف عبائتها الطويلة.
إرتفعت أجفانه حتى بدت حدقتا عينيه الباهتة و هو يحدق لوسي متربعة على الأرض، في وجهها خطوط لامعة من الدموع...
- يا إلهي كيف وصلت الى هنا؟!